أبو حيان التوحيدي تحت عجلات القطار!

03 نوفمبر 2019
+ الخط -
خيّم الصمت على العربة، جلُّهم صمتوا متحولين إلى كومبارس، أتقنوا أداء دور المشاهد الصامت (بانتوميم)، تركوا الحوار بين أحد الشُّطار العيارين والمكلوم أبي حيان التوحيدي. عهده بالعيارين يمزِّق الفؤاد، أخرجوه عن طوره، سرقوا بيته وقتلوا جاريته، أجبروه أن يصعِّر للنَّاس خدَّه، ويرفل في أثواب العوز، لم ينتشلوه منه بل غمسوه فيه حتى النخاع.

ترك بغداد إلى الريّ، لكن مهيض الجناح في وطنه قلَّما يكرمه الغريب، أغلقوا في وجهه سبل الرَّفاهة، استكثروا عليه أن يفارق باحة الفقر. يوم انقسم الناس طبقتين؛ طبقة في السحاب تتمرغ بألوان النعيم، وأخرى في التراب "فقيرة قوي"، تصارع الأسى وتعالج الهُون والهَوان، أفسحوا له مكانًا بين الفريق المغلوب على أمره، ولله الأمر!

قبل أعوام، كتب عن جور الحكام وصراعاتهم السياسية، ورصد همة الأمير معز الدين بن بويه في فرض الضرائب، وسرقة عماله أموال الناس بالفهلوة و"التلات ورقات"، وبناء عاصمة إدارية جديدة شمالي بغداد، وذكر أن معز الدين "لم يأبه كثيرًا بحقوق رعيته، فضيَّق على النَّاس واستخرج أموالهم من غير وجوهها".


في الوقت ذاته، كان ابن الفرات الوزير لا يأكل إلا بملاعق البلور، ولا يأكل بالملعقة إلا لقمة واحدة! (ابن خلكان)، وبلغ بهم الترف أن جعلوا مع الطباخ رجلًا يهتم بالشراب، وأسموه "الشّرابي"، مهمته العناية بالفاكهة والشراب والروائح! ووزيرٌ آخر غارق حتى أذنيه في الساحل، يعربد أبناؤه في دواوين الوزارة، يتحكمون في مصائر شعب ورثوه عن آبائهم وأجدادهم!

اشدُّد للأمر حيازيمك أبا حيان، عد لأرضك علَّها تحتضنك، وارجع لناسك ربما حنوا عليك. عاد لكنهم أوسعوه همًّا وأشبعوه كربًا، وألزموه بيع الشاي في قِطار الغلابة. تجرَّع الغُصص وابتلع المرارة صابرًا، يتقافز من رصيف إلى آخر، ينتهب الخطى لينتزع لقيمات يقمن صلبه ومن يعولهم، لكن "الحزين ما يشبعش حزن"؛ فأوقعه القدر تارةً أخرى بين براثن العيارين.

تذكر نكبته الأولى، وكيف أنه استهلك -ما قدَّره المختصون- 400 رطلٍ من الحبر، امتهن بها الوِرَاقَةَ ونسخ الكتب؛ ليدبر بيتًا يحميه من عوادي الدهر ونكبات الأيام، لكن العيارين دمروه في غمضة عين. ماذا عليه الآن وقد ضيَّقوا الخناق وسدوا الأفق، ليس بمقدوره أن يدفع 70 جنيهًا، لن يجديه نفعًا التوسُّل إليهم والتضرُّع بين يديهم، لن تسعفه لغته ولا كتبه؛ فما قيمة أدبه وفلسفته؟! تسفك كرامة المرء وتستباح إنسانيته، ويضيِّق عليه بنو جلدته ليزيدوا همَّه ويؤججوا نيران بؤسه، لا أحد يشعر بآلام من حوله، يتمتم في دواخله، ثم يستطرد لا بدَّ من حل لهذا النكد المستطيل، قبل أن يستدرك ويضيف "ليسَ لها من دون الله كاشفة".

أليس فيكم رجل رشيد؟ أليس فيكم قاضٍ رحيم؟ ألم تسمعوا ولو على سبيل الخطأ اسم فرانك كابريو، وكيف لقبوه في بلاد الكفار "القاضي الرحيم"؛ أيقترن القضاء بالرحمة في بلاد العم سام، ويصر أتباع خير الأنام أن يلصقوا القضاء بالقهر، وأن يجمعوه والجلاد في قبضة واحدة؛ أيعقل هذا يا عالم؟! لن أتذلل فوق ذلك قيد أنملة، وليكن ما يكون.

سأصرخُ... لا! ماذا يُجدي؟ صرختُ قبلًا وضجرت حولًا، وبعدما انبتَّت الصلة بيني وبين الصاحب بن عباد وابني العميد (الكبير والصغير)، كتبت "مثالب الوزيرين" تعريضًا بهما وتحقيرًا من شأنهما، ولم يتأثر الرأي العام تأثيره بهزة وسط الأم المثالية وصافينار المهلبية، ولا مسح جوخ موسى وبكري وكردوسي وقرموطي ودندراوي. يأكلها قومٌ والعة وقومٌ يأكلهم الهم وتتربص بهم الديون الدوائر، وهان على النُّظارة ما مرَّ بظهر المجلود، كأن قلوبهم من صخرٍ أملس، واللي ياكل الضرب مش زي اللي يعده!

توسَّط له صديقي أبو الوفاء البُوزجاني المهندس، وألحقني بمجلس الوزير عبد الله بن العارض بن سعدان، اتصلت ليالي السمر وأضواء المدينة سبعًا وثلاثين ليلة، وتشعب الحديث في مسائل شتى؛ فخضت غمار الأدب واللغة والفلسفة والفكر وغيرها من ألوان المعرفة، وتوهمت أن الوزير سيكرمني ويقدر مكانتي، لكنه كعادة الوزراء أهملني وأقبل على مصلحته وذويه، (وقد طوَّفْتُ في الآفاقِ حتَّى/ رضيتُ من الغنيمةِ بالإيابِ).

انفرد بنفسه يطالعهم بعينٍ مكسورة، لم يرقوا لحاله ولم يرأفوا بحالته، انزوى أكثر وتقهقر تجاه الباب، والقطار لا يلوي على انكساراته، يجيبه بلسان صارم صادم إن لفظك أهل الدم واللحم، أتظن بي أن أحتويك وأحن عليك وأنا الصلب الجامد؟ لا تطلب مني المحال، أخطأت الهدف وأبعدت النجعة، تطلب جذوة نار في سيلٍ عرمرم، يجلدونك بأعينهم ولا تجسر ألسنتهم أن تنصرك بكلمة؛ فلا تتوقع مني النصرة ولا الدفاع، إني آسَفُ لحالك، لكن "ما باليد حيلة".

وبدت أنها اللحظات الأخيرة، سالت دموعه على خديه، تذكر أنه حارب الظلم بقلمه، وحاول كسر صمت الإرسال مرارًا بيراعه ودواته ومحبرته، صرخ في الناس ليستيقظوا من سباتهم ويستدركوا ما فاتهم، لكن "لا حياة لمن تنادي"؛ فمسح بأردانه دموعه الثخينة، وسلى نفسه ببعض كلمات (كفرتُ بالأقلام والدفاتر/ كفرت بالفصحى التي تحبل وهي عاقر/ كفرت بالشعر الذي لا يوقف الظلم ولا يحرِّك الضمائر/ لعنت كل كلمة لم تنطلق من بعدها مسيرة/ ولم يخط الشعب في آثارها مصيره)، لأجل هذا حرقت كتبي قبل أيام؛ فلمن نكتب إن لم يقرأ المرء ويتحرر من نير عبوديته؟!

ألزمه العيارون القفز من القطار، قبل سنوات احترق إخوته في قطار الصعيد، وبعدها قضت زوجته في قطار قليوب، ومن أيام تفحَّم صديقه الوحيد في محطة رمسيس، وبدت النهاية تتراءى أمام ناظريه، اغرورقت عيناه وقد استسلم لما لا مهرب منه، وقال بصوتٍ مبحوح (أتعلمُ أم أنتَ لا تعلمُ/ بأن جِرَاحَ الضحايا فمُ)، قالها مقهورًا يسلي بها مصيبته، ثم قفز فافترسته عجلات القطار، واحتضنه الثرى!
دلالات