لن نختلف حول تضاؤل دور المثقف. لقد فقد المثقف، شيئاً فشيئاً، في ظل الحكومات الوطنية المستبدّة، تلك الروح المتألقة بالمسؤولية تجاه قضايا أمته، التي ميّزته في مرحلة النضال ضد الاحتلال والاستعمار. بات كهلاً متعَباً من التهديد بقطع الرزق واليد واللسان والإحباط.
أمام ناظريه: يُقتل المقاومون وتقصف المدن ويموت الأطفال تحت الأنقاض. يتساءل بصوت تخنقه العبرات: ما جدوى الشعر؟ الأدب؟ الفن؟ الثقافة؟ يدفع الأسئلة جانباً. مساء، كعادته كل يوم، يرتدي بدلته الرصاصية ثم يسير ببطء متوجّهاً نحو مقهاه القديم. يرتشف القهوة مع صديقين من جيله: قاص وفنان. يتبادلون الأخبار العالمية والعربية. يلعنون الاستعمار والصهيونية ولا ينسون الحكام العرب، خونة قضية الأمة العربية: فلسطين. بين الحين والآخر يُوقّعون بياناً للتنديد بغارات صهيونية أو استقبال رئيس عربي قميء لمسؤول صهيوني، يتساءلون أثناء مغادرة المقهى: ما جدوى ذلك؟ يبقى السؤال معلقاً فوق رؤوسهم إلى أن يطلب منهم توقيع بيان آخر. لم يعد ذلك الذي يرى أبعد من الآخرين.
حالياً، هناك من بين المثقفين من اختار الوقوف خارج المقهى، ليس انتقاصاً من دور الجالسين فيه، فبناء النضال تراكمي، لكنه مشغول بما كان أولوية إبداعهم سابقاً. يحاول لملمة ما تبعثره السياسة ويفتته ابتذال الخطاب، على أمل أن يساهم، كنسمة، في إعادة توجيه البوصلة، نحو الحقيقة الواحدة في حاضرنا ومستقبلنا: فلسطين.
ما الذي يستطيع المثقف العربي القيام به؟ هناك الكثير. الوعي النقدي، والإبداع، بكل أشكاله، والقناعة بأنه فرد وجزء من المجتمع، في آن واحد، هو المحطة الأولى. أن يفتح ذراعيه لأنشودة المقاومة وغد الأمل، ثم ينثرهما ليساهم بإنهاء الظلم، مدركاً أن مقاومة الظلم هو معنى أن يكون، وأن ليس هناك ما هو أشد قسوة من احتلال بيتك والاستيلاء على أرضك وإجبارك على الرحيل من وطنك.
ما هي أدوات وسبل المقاومة لمواجهة الظلم المتجسّد بالكيان الصهيوني العنصري، المدعوم أميركياً وحكومات الخيانة العربية؟ هناك عشرات الأدوات والسبل: القصة، الشعر، اللوحة، الصورة، النحت، الفيلم، الأغنية، المسرح، التطريز، الرقص، التوثيق، التاريخ، البحوث الأكاديمية والطبخ. كل هذا بجانب المقاومة المسلحة والانتفاضات والمسيرات والاعتصامات والمؤتمرات الشعبية. الأبواب، إذن، مشرعة ليحلق المثقف، فارداً جناحيه، صحبة شعبه.
وهذا هو بالضبط ما يقوم به العديد من المثقفين الفلسطينيين والعرب ومن بقية أرجاء العالم، حيث يمارسون مختلف الأنشطة للتذكير والتوثيق والإضاءة والاحتفاء بأن مفهوم المقاومة ثقافي عميق متجذر في وعي الشعوب، يتبدى بتعدده وتنوّعه، خاصة، في فترات الاحتلال.
لعل أفضل مثال على هذا المنطلق التفاعلي - التضامني، هو تحقيق "الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل" نجاحات عدة في مجال "مقاطعة و/أو العمل على إلغاء الفعاليات والأنشطة والاتفاقيات والمشاريع التي تشترك فيها دولة الاستعمار الإسرائيلي أو مؤسساتها الثقافية أو جماعات الضغط الصهيونية.
* كاتبة عراقية