أبعد من دونالد ترامب

11 ديسمبر 2015

تصريحات رسمية أميركية أخطر من تصريحات ترامب (7 ديسمبر/2015/Getty)

+ الخط -
في حين استغرق الجميع في مناقشة تصريحات المرشح الرئاسي الجمهوري، دونالد ترامب، وإدانتها، وهي التي دعا فيها، قبل أيام، إلى "فرض حظر شامل وكامل" على دخول المسلمين إلى الولايات المتحدة الأميركية، فإن أحداً لم يلق بالاً لما هو أخطر من تصريحات ترامب، والمتمثلة في التصريحات الرسمية الأميركية، والتي تحمّل المسلمين، وخصوصا الأميركيين منهم، وإنْ بشكل ضمني وجزئي، بعض المسؤولية في عدم التصدي، بشكل كافٍ، للفكر المتطرف في صفوفهم. وقبل أن نستطرد في هذه الجزئية، تقتضي الموضوعية منا أن نسجل هنا، أن الرئيس الأميركي، باراك أوباما، وبعض أركان إدارته، قدموا دفاعاً مبدئياً عن الإسلام والمسلمين بشكل عام، وعن المسلمين الأميركيين، بشكل خاص، رافضين ربطهم بالإرهاب والتطرف، ومؤكدين على مواطنتهم واحترام أغلبهم القانون في الولايات المتحدة. أيضا، رفض جُلّ المرشحين الجمهوريين للرئاسة، وقادة الحزب كذلك، تصريحات ترامب، وعدّوها مخالفة للقيم والدستور الأميركيين، لما تحمله من تمييز ضد مجموعة دينية.
ما سبق ثابت، وهو محل تقدير وشكر، غير أنه لا ينفي أن ثمة خللا بَيِّناً في المقاربة الأميركية الرسمية للأمر بكليته. فبعد هجمات باريس الشهر الماضي، وهجوم سان برناردينو في كاليفورنيا مطلع ديسمبر/كانون الأول الجاري، والتي تبنّاها تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، سارع الرئيس أوباما، ومسؤولون أميركيون آخرون، إلى إعادة تكرار تلك اللازمة المُجْتَرَّةِ منذ حقبة إدارتي الرئيس السابق، جورج بوش، أن على المسلمين فعل المزيد في مواجهة الفكر المتطرف النابع من مجتمعاتهم، ومساعدة الشرطة الأميركية على كشف "الإرهابيين المحتملين". مثلا، وبعد ثلاثة أيام من هجمات باريس (13 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي)، طالب أوباما المسلمين في أنحاء العالم بأن يسعوا إلى الإجابة عن "أسئلة مهمة جداً" بشأن كيف تجد الإيديولوجيات المتطرفة سبيلها إلى التأصل، ودعاهم إلى حماية أطفالهم من فكرة أن الدين يمكن أن يبرّر القتل. وأضاف "إلى حد ما.. هذا أمر ينبغي أن يأتي من داخل المجتمع المسلم نفسه. أعتقد أنه، في بعض الأحيان، لم يكن هناك ما يكفي من تصد للتطرف." عاد أوباما وكرّرها قبل أيام، في كلمة وجهها إلى الشعب الأميركي، تعليقا على هجوم سان برناردينو، ملمحاً إلى وجود حالة "إنكار" لدى المسلمين حقيقة أن الفكر المتطرف انتشر في بعض مجتمعاتهم، ومطالباً إياهم بـ"مواجهة هذه المشكلة الحقيقية". وأضاف أوباما أن على "زعماء المسلمين هنا (في أميركا) وحول العالم مواصلة العمل معنا بشكل حاسم، لا لبس فيه لرفض الإيديولوجيا البغيضة التي تروجها جماعات مثل داعش والقاعدة، وضرورة التحدث علناً، ليس فقط ضد أعمال العنف، ولكن أيضاً ضد تلك التفسيرات للإسلام التي تتعارض مع قيم التسامح الديني، والاحترام المتبادل، والكرامة الإنسانية".
أعاد الناطق باسم البيت الأبيض، جوش أرنست، تأكيد المعاني نفسها، مطالبا المسلمين بالتعبير علناً عن رفضهم الأصوات الأصولية داخل مجتمعاتهم، مضيفا: "نود رؤية زعماء في المجتمع المسلم يقفون ضد ويتحدثون علناً بقوة أكبر في ما يخص إدانة هذه الرسائل الأصولية الكريهة، التي نراها من المنظمات المتطرفة." وحذا وزير الأمن الأميركي الداخلي، جيه جنسون، النهج نفسه، عندما دعا المسلمين الأميركيين إلى "المساعدة" في التصدي "للمنظمات الإرهابية في الخارج (التي) استهدفت مجتمعاتكم، (و) تسعى إلى جذب شبابكم إلى هوة التطرف العنيف".
قد يسأل بعضهم هنا: وما المشكلة في ذلك؟ ما هو وجه الخطأ في دعوة المسلمين للتصدي بشكل أكبر للأفكار المتطرفة والأعمال الإرهابية التي تتم باسم الإسلام؟
في الإطار العام، قد لا تبدو هناك مشكلة، غير أنه في التفاصيل ثمة مشكلات ثلاث على الأقل
في خطاب كهذا. أولاها أنه قائم على مقدمات خاطئة، بقصد أم غيره. فالمسلمون في العالم، كما في الولايات المتحدة، دائما ما دانوا الفكر المتطرف والعمليات الإرهابية التي ترتكب باسم الإسلام. ولم يكتف المسلمون عبر علمائهم وهيئاتهم ومؤسساتهم بالإدانة فحسب، بل كثيرا ما قدموا تأصيلا فقهيا وفكريا وسياسيا، وبتراكم، كمي ونوعي، ضد مثل ذلك الفكر المتطرف والعمليات المستندة إليه. المشكلة الحقيقية، هنا، أن ثمة محاولات للتعمية على ذلك، بل وإنكار مثل هذه الجهود والتشكيك فيها. ويكفي أن نشير هنا، مثالاً، إلى أن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، برئاسة الدكتور يوسف القرضاوي، أصدر فتاوى ودراسات عدة تنقض الفكر المتطرف، وترد نسبته إلى الدين الإسلامي. ومع ذلك، فإن الاتحاد نفسه متهم من بعضهم في أميركا، ومن بعض حلفائها العرب بـ"التطرف" و"الإرهاب"، أو على الأقل التحريض عليهما.
يتعلق الإشكال الثاني بأن مثل هذه المقاربة الأميركية لا تأخذ في اعتبارها أن سياسات الولايات المتحدة، وبعض الغرب، ودول إقليمية ودولية أخرى، فضلا عن بعض الأنظمة في العالمين العربي والإسلامي، سياسات سيئة ومدمرة، وبأنها المُحَفِّزُ الأول للفكر المتطرف والأعمال العنفية المنطلقة منه. نعم، ثمة قراءات فقهية متطرفة وشاذة تبرّر العنف ضد الجميع، لكن هذه القراءات لا تنبع من فراغ ولا تنساح، أيضا، في فراغ. إنها قراءات يقدمها أغرار ضحلون فكرياً وفقهياً كاستجابة لواقع معوج مرير. تريد الولايات المتحدة أن تعفي نفسها من مسؤولية المساهمة في الأزمة، عبر دعمها المطلق عدوان إسرائيل، فضلا عن تدمير العراق واحتلاله وخلخلة نسيجه المجتمعي، والإخلال بالتوازنات الإقليمية في المنطقة. دع عنك، طبعا، دعمها أنظمة قمع وجور وتخلف تبطش بشعوبها، ومحاولاتها خنق أية بادرة تغيير في المنطقة.. إلخ. ليست الولايات المتحدة بريئة من حرائق المنطقة اليوم، و"داعش" بعض نتاج أميركي، كما هي نتاج لأنظمة القمع ومنظومة فقهية متطرفة شاذة. وحتى لو دمرت "داعش" اليوم، فإن ألف "داعش" أكثر تطرفاً وشذوذاً سترثها، فما دام العدوان مستمراً على هذه الأمة، وما دامت المنطقة في فوضى، كما في سورية، وما دام الكل يعبث بها، كالأميركيين والروس والإيرانيين، وما دام القمع والبطش مستمراً، فإن ألف فتوى وألف دراسة تنقض التطرف من أساساته إسلامياً لن تجدي نفعا.
تتعلق الإشكالية الثالثة في المقاربة الأميركية بالمسلمين الأميركيين. صحيح أن الرئيس أوباما تبنى نبرة إيجابية، إلى حد كبير، نحو الإسلام والمسلمين، منذ تولى الرئاسة مطلع عام 2009، غير أن نبرته الإيجابية وحديثه البناء، نسبياً، لم ينعكسا بوضوح على معضلة المسلمين الأميركيين في تَسْييسِ الأمن. يطالب أوباما وأركان إدارته المسلمين الأميركيين بضرورة التعاون مع الأجهزة الأمنية في التصدّي للتيارات العنفية، على الرغم من أن الواقع والدراسات تقول إن هذا هو الحاصل فعلا. المشكلة أن الأجهزة الأمنية تستهدف من يتصدّون فعلياً لخطاب التطرف والعنف بين المسلمين الأميركيين، وتعاملهم على أنهم هم أنفسهم مصدر تهديد! الحقيقة التي ينبغي الإقرار بها، هنا، أن الأجهزة الأمنية الأميركية تُسَيِّسُ الأمن في استهدافها كثيرين من قيادات المسلمين الأميركيين، ممن يعارضون بعض جوانب السياسة الخارجية الأميركية، وإن ضمن منظومة القيم والمعايير الأميركية، وتضعهم في الخانة نفسها مع من يتبنون خطاب العنف. أبعد من ذلك، تحاول الإدارة أن تفرض على المسلمين قيادة مدجنة هجينة، لا تحظى بقبول ومصداقية داخل الجالية المسلمة، ومن هؤلاء من أيد في 2009 و2012 عدوان إسرائيل على قطاع غزة، وأيد الانقلاب في مصر عام 2013.. إلخ، فكيف يمكن لهؤلاء أن يكون لهم أثر ومصداقية بين المسلمين الأميركيين!؟
باختصار، لن يمكن الانتصار على التيارات العنفية، مثل "داعش"، واستئصال الفكر المتطرف، ما لم يتم تجفيف الينابيع التي تغذي تيارات الغضب والاحتجاج في المنطقتين العربية والإسلامية. وضمن هذا السياق، يصبح الفقه والفكر المتطرفان استجابة شاذة للبؤس الذي يحياه العرب والمسلمون، سواء ضمن فضائهم الجغرافي، أم حتى في الغرب.