02 نوفمبر 2024
أبعاد معركة الساحل الغربي في ليبيا
شنّت قوّات حكومة الوفاق الوطني الليبية، في إطار عملية "عاصفة السلام"، هجوما مكثّفا، في 13 أبريل/ نيسان الجاري، من محاور عدّة، على تمركزات كتائب اللواء المتقاعد خليفة حفتر في منطقة الساحل الغربي، فتمكّنت في سبع ساعات من بسط نفوذها على ثماني مدن وبلْدات إستراتيجية (صرمان، صبراطة، مليتة، العجيلات، راقدالين، زلطن، الجميل، العسّة)، وسيطرت على مساحة إجمالية تقدّر ب3250 كم مربّعا. وهي منطقة ذات ثقل سكّاني كبير، تمتدّ من طرابلس إلى ممرّ راس الجدير، على الحدود مع تونس، وتكتسب أهمّيتها من انفتاحها على البحر، ومن قربها من العاصمة ووصلها بين غرب البلاد وعمقها الداخلي. وهي إلى ذلك فضاء تجاري/ اقتصادي حيوي. ويعد ضمها إلى مناطق الحكومة الليبية، في نظر مراقبين، خسارة كبرى لكتائب "عمليّة الكرامة"، ولها دلالات عدّة وتداعيات في مستويات شتّى.
من منظور إستراتيجي، يمكن القول إنّ منطقة الساحل الغربي هي امتداد جغرافي حيوي محاذ للعاصمة، وهي متنفّس اقتصادي لطرابلس، وشريانٌ تتدفق منه الإمدادات الغذائية والمواد الاستهلاكية إلى سكّانها، وهي طريق مسترسل، يؤمّن المبادلات التجارية بين ليبيا وتونس. والمنطقة من الناحية الأمنية هي الخاصرة الغربيّة لطرابلس، وتأمينها من تأمين العاصمة بالضرورة، ولذلك بادرت قوّات "بركان الغضب" التابعة لحكومة الوفاق الوطني بتحريرها من قبضة كتائب حفتر. ولم يكن اختيار بنك الأهداف اعتباطيّا، بل كان دقيقا، ومحكوما بغاية تأمين الشريط الساحلي الغربي، وفكّ الإسار عن العاصمة. ولم يكن اختيار التوقيت عفويا، فقد تمّ
الهجوم مبكّرا في ساعات الفجر الأولى، وهي فترة تراخ أمني في صفوف القوّات المستهدفة، وتمّ بعد شهور من استقرار كتائب عملية الكرامة في المنطقة، واطمئنانها نسبيّا لسيطرتها المطلقة على المكان. وتمّ الهجوم أيضا بعد عام من استنزاف قوّة "الفتح المبين" على تخوم طرابلس. وفي وقت تنشغل القوى الإقليمية الداعمة لخليفة حفتر بمواجهة تحدّياتها الدّاخلية، وفي مقدّمتها معضلة فيروس كورونا المستجَد (كوفيد - 19) .وقد ساعدت تلك المعطيات مجتمعة، ولو بشكل غير مباشر، قوّات "بركان الغضب" على كسب معركة الساحل الغربي.
عسكريا، كان الهجوم سريعا، دقيقا، خاطفا، مباغتا، اعتمد عنصر المفاجأة، والتنسيق بين الضربات الجوية والتقدّمات الميدانية البرّية، على نحوٍ أربك قوات عملية الكرامة التي لم تتوقع هجوما بتلك الكثافة، ولم تجد وقتا لترتيب صفوفها واستيعاب الصدمة، والرد بنجاعة على قوات "عاصفة السلام"، فبدت مشتّتة، ولم تصمد طويلا في المعارك، وتكبّدت خسائر جسيمة في العتاد والعدد. فيما فرّ آخرون نحو قاعدة الوطية الجوية، ووقع غيرهم أسرى لدى حكومة الوفاق الوطني. ويبدو أنّ عوامل عدّة صنعت الفارق لصالح قوّة بركان الغضب، لعلّ أهمّها أنّ كتائب حفتر لم تكن على درجةٍ عاليةٍ من الجاهزية والحرفية، وذلك على خلاف ما يروّجه الإعلام الموالي لعمليّة الكرامة، ولم تكن لها عقيدة قتالية راسخة، ولا خطط إستراتيجية واضحة لإدارة المعارك على الميدان. وبدا أنّها تعاني من تقطّع خطوط الإمداد، ومن بُعد عن مقرّ القيادة المركزية، وليس لها غطاء جوّي ناجع. وعلى عكس ذلك، ظهرت قوّات "بركان الغضب" متماسكة، متكوّنة من شباب تمرّس بالقتال، لا يخشى الموت، بل يطلب الموت في مظانّه. ويندفع نحو ميدان المعارك بسرعة وقوّة، وفق خطة عسكرية محكمة، معتقدا أنه يدافع عن قضيّة الثورة ومدنية الدولة في مواجهة مشروع عسكرة البلاد. ومهّدت قوّات سلاح الجو الطريق لتقدّمات كتائب "بركان الغضب"، واستعانت خصوصا بطائرات تركية مسيّرة ساعدت في الرصد والاستطلاع وتأمين الغطاء الجوّي. كما أنّ معركة طرابلس استنزفت الخزّان البشري لكتائب حفتر، وجعلت حضورها في الساحل الغربي والجنوب باهتا. يضاف إلى ذلك أنّ انتقال قوّات حكومة الوفاق الوطني من الدفاع إلى الهجوم كان مفاجأة كبرى، أربكت عناصر عمليّة الكرامة، وصنعت الفارق لصالح بركان الغضب.
سياسيا، أدّت التطوّرات الميدانية في منطقة الساحل الغربي إلى انحسار مشروع عسكرة الدولة الذي يقوده خليفة حفتر، على الأقل في المنطقة الغربية، فقد ثبت أن معظم الليبيين يرفضون استعادة النظام الشمولي، والارتهان لهيمنة شخص أو أسرة أو قبيلة معيّنة، بل يميل جُلّهم إلى بناء نظام جمهوري/ ديمقراطي، يضمن حقّ الاختلاف، والحرّيات، والتداول السلمي على السلطة بالارتكان إلى صندوق الاقتراع، لا إلى قوّة السلاح وصندوق الذخيرة. ودعّمت انتصارات "بركان الغضب" موقف حكومة الوفاق في مسار التفاوض الذي تقوده الأمم المتحدة لتسوية الأزمة الليبية، وعزّزت احتمال استبعاد حفتر من مفاوضات الحلّ السياسي للصراع الدائر بين شرق ليبيا وغربها، خصوصا أن حكومة الوفاق، ومراقبين، أصبحوا يعتبرون الرجل جزءا من المشكل، لا من الحلّ، لأنّه نقض الهدنة مرّات، ورفض وقف إطلاق النار، ولم يوقّع في جلسات التفاوض السابقة في عواصم مختلفة على مذكّرات التفاهم بين الطرفين المتنازعين لحلّ الأزمة سلميّا. بل مضى في تبنّي الخيار العسكري، والاستقواء بالأجنبي، لفرض أجندته على الاجتماع الليبي. وبدا واضحا أنّه لا يطمح إلى أن يكون جزءا من المنظومة الحاكمة. بل يريد أن يكون الحاكم العسكري لليبيا، ما يعني إعادة إنتاج ديكتاتور جديد. وفي هذا السياق، قال رئيس حكومة الوفاق الوطني، فايز السراج، في مقابلة مع صحيفة لا ريبوبليكا الإيطالية (15 أبريل/ نيسان 2020): "ليبيا لا تريد ديكتاتورية أخرى.. لن أجلس بعد اليوم (إلى طاولة التفاوض) مع حفتر بعد الكوارث والجرائم التي ارتكبها بحق جميع الليبيين".
على الصعيد الاجتماعي، بدا جليّا أنّ كتائب حفتر، على الرغم من بقائها شهورا في مدن الساحل الغربي، لم تنخرط في النسيج المجتمعي المحلّي، وفشلت في كسب حاضنةٍ شعبيةٍ واسعة داعمة
لها، وظلّت تُعامل باعتبارها قوى دخيلة على المشهد العمراني في المنطقة. ولذلك لم يأسف أغلب الأهالي لرحيلها، بل أبدى طيف منهم ارتياحهم لعودة محافظات الساحل إلى كنف حكومة الوفاق الوطني، المعترف بها دوليا. ويفترض أن تضطلع هذه الحكومة بدورها في حماية الممتلكات العامّة والخاصّة، وتحقيق السلم الاجتماعي، وتوفير أسباب العيش الكريم للمواطنين، حتّى تعزّز شرعيتها ويلتفّ النّاس من حولها.
ومن الناحية الاقتصادية، مكّنت عمليّة عاصفة السلام حكومة فايز السرّاج من استعادة السيطرة على أنابيب الغاز المتجهة نحو إيطاليا في منطقة مليتة، ووضع حدّ لضغوط حفتر على الحكومة الإيطالية في هذا الخصوص، ذلك أنّ الجزء الأكبر من الغاز الطبيعي الليبي المعالج يتمّ تصديره من مجمع مليتة الصناعي عبر خط أنابيب بحري (بقُطر 32 بوصة وبطول 516 كم) يربط مجمع مليتة الصناعي بالساحل الجنوبي لإيطاليا، وتديره شركة الدفق الأخضر (Green Stream)، ويُعد خط التصدير البحري هذا الخط الوحيد الذي يربط بين ليبيا وأوروبا. وتساهم شركة مليتة للنفط والغاز في سد جزء كبير من احتياجات الاستهلاك المحلي من الغاز الطبيعي الذي يغذّي محطات توليد الكهرباء، ويوفّر غاز الاستعمال المنزلي. لذلك، تعد استعادة منطقة مليتة الإستراتيجية مكسبا اقتصاديا مهمّا لحكومة الوفاق. كما فتحت عملية عاصفة السلام الطريق التجاري الرابط بين طرابلس وتونس، وأعادت الحيوية للنشاط الاقتصادي في محافظات الساحل الغربي.
ختاما، راهن خليفة حفتر على الخيار العسكري لحل الأزمة الليبية، ويبدو، بعد التطوّرات الميدانية أخيرا، أنّ الأمور لا تسير في صالحه. وأحرى بالفرقاء الليبيين، في هذه اللحظة التاريخية الدقيقة، وضع حدّ لهذه الحرب العبثية التي فكّكت البلاد، وعمّقت الضغائن، وأدمت الحجر والبشر، واستنزفت الجهد، والثروات والذخائر، وأرهقت المدنيين. والتوجّه بدل ذلك إلى طاولة الحوار والسلام لبلورة حلّ سياسي شامل للأزمة، يكون في صالح الليبيين وشركائهم الإقليميين والدوليين، ويؤدّي إلى إقامة دولة مدنية، ديمقراطية، جامعة.
عسكريا، كان الهجوم سريعا، دقيقا، خاطفا، مباغتا، اعتمد عنصر المفاجأة، والتنسيق بين الضربات الجوية والتقدّمات الميدانية البرّية، على نحوٍ أربك قوات عملية الكرامة التي لم تتوقع هجوما بتلك الكثافة، ولم تجد وقتا لترتيب صفوفها واستيعاب الصدمة، والرد بنجاعة على قوات "عاصفة السلام"، فبدت مشتّتة، ولم تصمد طويلا في المعارك، وتكبّدت خسائر جسيمة في العتاد والعدد. فيما فرّ آخرون نحو قاعدة الوطية الجوية، ووقع غيرهم أسرى لدى حكومة الوفاق الوطني. ويبدو أنّ عوامل عدّة صنعت الفارق لصالح قوّة بركان الغضب، لعلّ أهمّها أنّ كتائب حفتر لم تكن على درجةٍ عاليةٍ من الجاهزية والحرفية، وذلك على خلاف ما يروّجه الإعلام الموالي لعمليّة الكرامة، ولم تكن لها عقيدة قتالية راسخة، ولا خطط إستراتيجية واضحة لإدارة المعارك على الميدان. وبدا أنّها تعاني من تقطّع خطوط الإمداد، ومن بُعد عن مقرّ القيادة المركزية، وليس لها غطاء جوّي ناجع. وعلى عكس ذلك، ظهرت قوّات "بركان الغضب" متماسكة، متكوّنة من شباب تمرّس بالقتال، لا يخشى الموت، بل يطلب الموت في مظانّه. ويندفع نحو ميدان المعارك بسرعة وقوّة، وفق خطة عسكرية محكمة، معتقدا أنه يدافع عن قضيّة الثورة ومدنية الدولة في مواجهة مشروع عسكرة البلاد. ومهّدت قوّات سلاح الجو الطريق لتقدّمات كتائب "بركان الغضب"، واستعانت خصوصا بطائرات تركية مسيّرة ساعدت في الرصد والاستطلاع وتأمين الغطاء الجوّي. كما أنّ معركة طرابلس استنزفت الخزّان البشري لكتائب حفتر، وجعلت حضورها في الساحل الغربي والجنوب باهتا. يضاف إلى ذلك أنّ انتقال قوّات حكومة الوفاق الوطني من الدفاع إلى الهجوم كان مفاجأة كبرى، أربكت عناصر عمليّة الكرامة، وصنعت الفارق لصالح بركان الغضب.
سياسيا، أدّت التطوّرات الميدانية في منطقة الساحل الغربي إلى انحسار مشروع عسكرة الدولة الذي يقوده خليفة حفتر، على الأقل في المنطقة الغربية، فقد ثبت أن معظم الليبيين يرفضون استعادة النظام الشمولي، والارتهان لهيمنة شخص أو أسرة أو قبيلة معيّنة، بل يميل جُلّهم إلى بناء نظام جمهوري/ ديمقراطي، يضمن حقّ الاختلاف، والحرّيات، والتداول السلمي على السلطة بالارتكان إلى صندوق الاقتراع، لا إلى قوّة السلاح وصندوق الذخيرة. ودعّمت انتصارات "بركان الغضب" موقف حكومة الوفاق في مسار التفاوض الذي تقوده الأمم المتحدة لتسوية الأزمة الليبية، وعزّزت احتمال استبعاد حفتر من مفاوضات الحلّ السياسي للصراع الدائر بين شرق ليبيا وغربها، خصوصا أن حكومة الوفاق، ومراقبين، أصبحوا يعتبرون الرجل جزءا من المشكل، لا من الحلّ، لأنّه نقض الهدنة مرّات، ورفض وقف إطلاق النار، ولم يوقّع في جلسات التفاوض السابقة في عواصم مختلفة على مذكّرات التفاهم بين الطرفين المتنازعين لحلّ الأزمة سلميّا. بل مضى في تبنّي الخيار العسكري، والاستقواء بالأجنبي، لفرض أجندته على الاجتماع الليبي. وبدا واضحا أنّه لا يطمح إلى أن يكون جزءا من المنظومة الحاكمة. بل يريد أن يكون الحاكم العسكري لليبيا، ما يعني إعادة إنتاج ديكتاتور جديد. وفي هذا السياق، قال رئيس حكومة الوفاق الوطني، فايز السراج، في مقابلة مع صحيفة لا ريبوبليكا الإيطالية (15 أبريل/ نيسان 2020): "ليبيا لا تريد ديكتاتورية أخرى.. لن أجلس بعد اليوم (إلى طاولة التفاوض) مع حفتر بعد الكوارث والجرائم التي ارتكبها بحق جميع الليبيين".
على الصعيد الاجتماعي، بدا جليّا أنّ كتائب حفتر، على الرغم من بقائها شهورا في مدن الساحل الغربي، لم تنخرط في النسيج المجتمعي المحلّي، وفشلت في كسب حاضنةٍ شعبيةٍ واسعة داعمة
ومن الناحية الاقتصادية، مكّنت عمليّة عاصفة السلام حكومة فايز السرّاج من استعادة السيطرة على أنابيب الغاز المتجهة نحو إيطاليا في منطقة مليتة، ووضع حدّ لضغوط حفتر على الحكومة الإيطالية في هذا الخصوص، ذلك أنّ الجزء الأكبر من الغاز الطبيعي الليبي المعالج يتمّ تصديره من مجمع مليتة الصناعي عبر خط أنابيب بحري (بقُطر 32 بوصة وبطول 516 كم) يربط مجمع مليتة الصناعي بالساحل الجنوبي لإيطاليا، وتديره شركة الدفق الأخضر (Green Stream)، ويُعد خط التصدير البحري هذا الخط الوحيد الذي يربط بين ليبيا وأوروبا. وتساهم شركة مليتة للنفط والغاز في سد جزء كبير من احتياجات الاستهلاك المحلي من الغاز الطبيعي الذي يغذّي محطات توليد الكهرباء، ويوفّر غاز الاستعمال المنزلي. لذلك، تعد استعادة منطقة مليتة الإستراتيجية مكسبا اقتصاديا مهمّا لحكومة الوفاق. كما فتحت عملية عاصفة السلام الطريق التجاري الرابط بين طرابلس وتونس، وأعادت الحيوية للنشاط الاقتصادي في محافظات الساحل الغربي.
ختاما، راهن خليفة حفتر على الخيار العسكري لحل الأزمة الليبية، ويبدو، بعد التطوّرات الميدانية أخيرا، أنّ الأمور لا تسير في صالحه. وأحرى بالفرقاء الليبيين، في هذه اللحظة التاريخية الدقيقة، وضع حدّ لهذه الحرب العبثية التي فكّكت البلاد، وعمّقت الضغائن، وأدمت الحجر والبشر، واستنزفت الجهد، والثروات والذخائر، وأرهقت المدنيين. والتوجّه بدل ذلك إلى طاولة الحوار والسلام لبلورة حلّ سياسي شامل للأزمة، يكون في صالح الليبيين وشركائهم الإقليميين والدوليين، ويؤدّي إلى إقامة دولة مدنية، ديمقراطية، جامعة.