أبرد السياسيين في مصر!

01 سبتمبر 2020
+ الخط -

في عدد خصصته مجلة (الإثنين والدنيا) الصادرة عن دار الهلال عام 1942 للفصول الباردة التي يتعرض لها المصريون في حياتهم، اختار محررها العام الكاتب الشاب وقتها مصطفى أمين أن يكتب موضوعاً عن (أبرد السياسيين في مصر)، لكنه لكي يهدئ من غضب الرقابة اختار أن يبدأ موضوعه بالتأكيد على أن المجلة لا تقصد "بالبرودة الدم التقيل فإن الباردين من أخف الناس دماً، ولكن نقصد بذلك هدوء الأعصاب وضبط النفس مما لا يتفق مع طبيعة سكان منطقة البحر الأبيض المتوسط، فإن كثيرين منا يثورون بسرعة ويتحمسون بسرعة ويهدأون بسرعة أيضاً".

بعد هذه المقدمة التي خففت وقع العنوان على الرقيب، لم يدخل مصطفى أمين في الموضوع الذي وعد به قارئه، ليبدأ بالحديث عن حكاياته كمحرر صحفي مع عدد من السياسيين ذوي الدم الحامي والمزاج الحار قائلاً: "صاحب المقام الرفيع علي ماهر باشا رجل حار يغضب بسرعة ويتنرفز بسرعة، وأذكر أنه قابل مرة كاتب هذه السطور في رياسة مجلس الوزراء، فما كاد يراني حتى هاجت ثائرته وراح يزعق بأعلى صوته، واختفيت يومها وراء سابا حبشي بك وزير التجارة والصناعة في ذلك الحين ولكن حجم سابا بك الصغير لم يسمح لي بالاختفاء، ثم ظهر بعد ذلك أن علي باشا لم يقرأ المقال، بل سمع به فقط، وعندما قرأ رفعته المقال موضوع الخناقة، عرف أنه لا يستحق عناء الزعيق، وقرأ رفعته مرة مقالا للأستاذ التابعي فتضايق منه واستدعاني أنا وحفني محمود بك، وقال لنا إنه قرر أن يضرب الأستاذ التابعي بالرصاص! ومن العظماء الحارين أيضا: معالي مكرم عبيد باشا فهو سريع الثورة، وهناك وزراء سابقون كانوا يجرون وراء الموظفين ليضربوهم بالشلوت، وهناك وزير سابق رمى سكرتيره بزجاجة الحبر في وجهه وغيرهم وغيرهم".

ثم بعدها دخل مصطفى أمين في صلب الموضوع بادئاً بقصة لا تدري هل كان يتصور أنها تسيئ إلى بطلها ولم ينتبه إلى أنها ستفعل العكس، أم أنه كان يهدف بالأساس إلى الأثر الذي أحدثته، يقول مصطفى أمين: "ولكن هناك بعض عظماء يتمتعون بالبرود والهدوء، وفي مقدمة هؤلاء دولة إسماعيل صدقي باشا، فقد كنت أنا من أصدقاء نجله الأستاذ عزيز صدقي، وكان دولته يراني كثيرا، وذات يوم عطل دولته الدستور ونظمنا إضرابا في المدارس الثانوية احتجاجا على تعطيل الدستور وقدت أنا وأخي إضرابا في المدرسة الخديوية، وحاصر البوليس المدرسة وأراد القبض علينا وقفزنا من السور إلى مدرسة بنات كانت بجوارنا وكانت البنات متحمسات في ذلك العهد فأخفونا في سيارة المدرسة التي حملت البنات إلى بيوتهن، وبعد وصولنا إلى البيت بربع ساعة، حضر ضابط بوليس للقبض علينا وحملنا في سيارة البوكسفورد إلى النيابة، وعرضنا على الضابط أن نركب سيارتنا الخاصة بدلا من البهدلة في سيارة البوكسفورد، ولكنه أبى وتذكرت أننا نعرف صدقي باشا وأن الأستاذ محمود رشيد سكرتيره السياسي صديق حميم لي.

قابلت دولته على باب الوزارة فإذا هو يضحك، قلت له: الاستقالة لم تقبل؟ قال: كلا بل قبلت، قلت: طيب بتضحك ليه، قال: لأني شفت خلقتك الشريفة

وعندئذ أحببت أن يعرف الضابط مبلغ نفوذي في الدولة، فطلبت الأستاذ محمود رشيد في التليفون، وقصصت عليه محاولة القبض علي، وطلبت منه أن يخابر دولة صدقي باشا ليسمح لي الضابط بالذهاب إلى النيابة بسيارتي الخاصة بدلا من البوكسفورد، وقال محمود رشيد إنه سيحدث صدقي باشا وسيكلمني بعد خمس دقائق، وجلست منتفخا وأنا أنظر للضابط نظرة معناها: انت فاكر أنا مين! وبعد خمس دقائق طلبني محمود رشيد وقال لي: خلي الضابط يكلمني، وسررت وأعطيت التليفون للضابط، وسمعت الضابط يقول: حاضر يا أفندم أمرك يا افندم، وكنت أنا في تلك الساعة أشعر بسرور لا حد له لانتصار سلطتي على سلطة البوليس، وانتهت المحادثة، ثم أخرج البوليس من جيبه قيودا حديدية ووضعها في يدي وهو يقول: اتفضل قدامي، دي أوامر الباشا الجديدة".

بعدها تحدث مصطفى أمين عن بارد آخر هو "معالي أحمد حسنين باشا" الذي هو "من أشد الناس احتفاظا بأعصابهم. حدث أن طلبته ذات صباح في التليفون ليحدد لي موعدا أقابله فيه، فقال لي: كلمني بعد نصف ساعة، وكلمته بعد نصف ساعة، فقال: بعد ربع ساعة، وبعد ربع ساعة قال: بعد ساعة، وبعد ساعة قال لي: لا تخرج من مكتبك سأطلبك أنا، ولم يطلبني معاليه طبعا، وأردت أن أنتقم منه، فانتظرت حتى الساعة الثالثة صباحا، وطلبته في التليفون، واستيقظ معاليه فقال: جرى إيه؟ قلت له: معالك قلت لي: لا تخرج من مكتبك حتى تكلمني فهل أقدر أروح بقى؟ وكنت أنتظر أنه سيثور، ولكنه قال: أيوه تقدر تروح، ثم عاد معاليه إلى النوم".

حكى بعدها مصطفى أمين قصة ستصيبك بالحسرة على ما وصلت إليه أحوال الصحافة المصرية الآن: "ومن السياسيين البارزين المغفور له توفيق نسيم باشا، كنت أزوره ذات يوم في داره، وأحضر الخادم صحيفة معارضة وقد امتلأت طعنا في نسيم باشا، ورسمته رحمة الله عليه بشكل حمار، وأمسك دولته صورة الجريدة وأخذ يتفرس فيها وأنا مندهش ثم أعطاني المجلة، وقال لي: فيه غلط في الصورة دي، تعرف إيه هوه؟ قلت وأنا أحاول أن أخفف وقع الصدمة على نفسه: طبعا لأنهم لو يعرفوا الحقائق ما كانوش يرسموا دولتك بالصورة دي، فقال دولته: لا، مش قصدي، أصلهم راسمين الحمار بتلات رجلين بس".

ثم ختم مصطفى أمين موضوعه اللطيف قائلاً: "ومن الذين اشتهروا بالبرود السياسي دولة حسين سري باشا، ذهب دولته ليقدم استقالته من الوزارة، وقابلت دولته على باب الوزارة فإذا هو يضحك، قلت له: الاستقالة لم تقبل؟ قال: كلا بل قبلت، قلت: طيب بتضحك ليه، قال: لأني شفت خلقتك الشريفة، انت عاوز حاجة تضحك أكتر من كده"، ومع أنه اختار قصة باردة ليختم بها كلامه عن "أبرد السياسيين في مصر"، إلا أنك يمكن أن تختار خاتمة أسخن لو تخيلت ما الذي يمكن أن يحدث الآن لو قامت صحيفة داخل مصر بنشر صورة لحيوان السيسي داخل قفصه بحديقة الحيوانات، دون أن ينشر اسمه الجديد المعتمد: "الشيتلاند".

....

وصفة طلعت حرب للنجاح المالي

وجهت مجلة (كل شيء والدنيا) في عددها الصادر بتاريخ 15 نوفمبر 1933 سؤالا إلى أكبر رجال المال والأعمال في مصر يقول: "كيف نجحت في أعمالك المالية؟"، وقد اخترت لكم من الإجابات المنشورة إجابة طلعت باشا حرب الذي وصفته المجلة بأنه "زعيم مصر الاقتصادي"، والذي أجاب على السؤال كالتالي:

"هذا سؤال تصعب الإجابة عنه لرجل من رجال الأعمال، فهو يعمل ليصل إلى النجاح دون أن يفكر في السر الذي أدى به إليه، ويقوم بالواجب عليه صباحا ومساء، ويتصرف في الأمور التي تعرض عليه بما يعتقد أنه في صالح العمل الذي ينصرف إليه، ومع هذا فإني أحاول أن أنتزع نفسي من وسط مشاغلي وأخرج إلى التفكير في الإجابة عن سؤالكم.

أول ما يتبادر إلى الذهن هو أنكم تقصدون بسؤالكم نجاح بنك مصر، وجوابا عن ذلك أقول إن معظم السر في نجاح بنك مصر يرجع إلى أن الدعوة إلى تأسيسه لم تقم على فكر المصلحة لشخص واحد أو أشخاص معينين، بل قامت على فكرة عامة تقضي بتأسيس بنك مصري بمساهمين مصريين وبرؤوس أموال مصرية محضة، فلو أن الدعوة إلى تأسيس بنك مصر قامت لمصلحة أفراد معينين لاحتمل أن يوقم البنك، ولكنه كان سيقوم باعتبار أنه بنك شخصي لهؤلاء الأفراد، وكان سيعيش ما عاش هؤلاء الأفراد متفقين.

أما وبنك مصر فقد تأسس على أن يساهم فيه المصريون بدون تمييز، فقد عاش وسيعيش بمشيئة الله تعالى وحراسته الصمدانية ملكا للجميع، وبنكا قوميا بمعنى الكلمة، بصرف النظر عن الأشخاص القائمين بإرادته أو المشتركين في أسهمه، فإن القائمين بإرادته أو المشتركين في أسهمه، فإن القائمين بإرادته أفراد أعمارهم محدودة بأعمار الفرد، أما المساهمون فمصريون وقد يكونون مساهمين اليوم ثم يكون غيرهم مساهمين بدلهم في حياتهم أو بعد طول عمرهم، ويبقى مع هذا بنك مصر عملا قوميا قائما لمصلحة البلد ومصلحة المصريين أجمعين.

فالصفة القومية التي بني عليها البنك ـ لا الصفة الشخصية ـ هي التي أدت إلى النجاح المطرد في أعماله، وهي التي أدت إلى تعلق المصريين به وحرصهم عليه وإقبالهم الشديد على معاملته وتأييده تمام التأييد، ولهذا فإني أحب أن يفهم المصريون دائما أن بنك مصر عمل قومي صالح في حد ذاته، بصرف النظر عن الأشخاص القائمين به، وأن نجاح هذا العمل هو المقصود بالذات أيضا، فالأشخاص زائلون، والعمل باق ما بقي في الأمة المصرية شعور بالحياة ومستلزماتها الإنشائية والدفاعية، والله الذي وفق الجميع إلى النجاح الذي بلغه البنك حتى الآن يزيدهم توفيقا لإبلاغ هذا العمل القومي النافع أقصى درجات النجاح".

سأترك لك التعليق.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.