15 فبراير 2016
آكلوا النفايات ونهاية العالم
تكاد لا تحصى عدد المرات التي صادفت في طريقي رجالاً ونساء وأطفالاً يتحلقون حول مكبات النفايات، بحثاً عن وجبتهم الوحيدة ربما خلال اليوم، من فضلات الطعام المشرفة على التعفن والتفاعلات الكيميائية. لكنني لم أصادف يوماً من يرمي فضلات طعامه، ثم يأتي بعد ساعات قليلة فينبش في أكياس القمامة ليحظى بوجبة إضافية!
قبل أزمة النفايات التي اجتاحت لبنان، وقبل انبعاث روائح حرائقها ونتانتها، وقبل انضمام عصابات وشخصيات إلى قائمة النفايات المعنوية، كنت جالسة على شرفة منزل في الجبل، أراقب الشارع الخالي إلا من سيارات تمر مسرعة كل ربع ساعة، وعلى رأس الشارع مكب للنفايات، لا يشكل مكانه أي تشويه للوحة الطبيعة.
المشهد الذي شوه اللوحة بنظري كان الرجل الذي خرج من المنزل المجاور يحمل صحن طعام شبه فارغ، يرمي ما تبقى منه بواسطة ملعقته في مكب النفايات، وكأنه سلة مهملات داخل مطبخه. وبعد أقل من نصف ساعة، خرج مجدداً يعاين المكب، يخرج أكياس النفايات المربوطة بإحكام ويفتحها أمامه، ويبحث فيها، فأراه يكمل قضم تفاحة أو قطعة خبز، ثم يعيد الأكياس إلى داخل الحاوية.
كان الرجل في أواخر الأربعينيات من عمره، رث الثياب، مطلق اللحية ويحتاج حتماً لقص شعره، شاهدته مرات في أوقات الصباح وبعد الظهر خارجاً من منزله أو عائداً، أي في أوقات دوام عمل، ولمحته مراراً يتناول الطعام مع عدة أشخاص يبدون عاديين، نعم يظهر عليهم الفقر، لكنه ليس الفقر الذي يدفع بصاحبه للأكل من حاويات القمامة.
تعجبت من المشهد، لكنني سرعان ما محيته من ذاكرتي، على الرغم من الأسئلة التي دارت في قرارة نفسي. لكن، يبدو أن بعض الأمور التي نجتهد في تناسيها لن تنسانا بالضرورة بدورها، فعاد المشهد ليتكرر يومياً أمام ناظري.
في أيام نهاية الأسبوع، كانت الحاوية تمتلىء بالأكياس، نتيجة امتلاء البيوت في المنطقة بالزائرين الذي يقيمون المأدبات والحفلات، وكان صاحبنا يسارع بالتوجه إلى الحاوية مباشرة، عندما ترمي خادمة كيساً من هنا، أو يلقي رب أسرة كيساً من هناك، ثم أكتشف أن للرجل أخت (علمت ذلك لاحقاً) تمتهن الهواية نفسها، وهي مثله في الهيئة والمظهر والحركات، عدا شعرها الأبيض الطويل الذي تطلقه من دون تسريح، كنت أراه يشير إليها للتوجه إلى مكب آخر غير الذي يختص هو به، وكانا في بحر الأسبوع حين تشح أكياس النفايات، تظهر رجلاهما في الهواء من خارج المكبات بينما يغوصان لنصف جسدهما داخلها.
في مخيلتي، أردت أن أسألهما لماذا يفعلان ذلك؟ لكن روايات الجيران التي تقول إنهما مريضان عقليان، وأحياناً كلمات وقصص مرعبة عنهما، مدعمة بالابتسامة الغريبة المقلقة، بل المخيفة أحياناً التي يطلقانها، كلما نظرا إلى أحد أو التقت عين المارين بعينيهما أو حتى بمعاينة كل من يقف على شرفات المنازل، أو يمر بجانبهما، وأنا منهم، منعتني.
لكم أن تتخيلوا بأنفسكم ماذا حدث عندما بدأت أزمة النفايات في لبنان. لكن، باختصار لقد ضاعفا زياراتهما إلى الحاويات وتزايد معها عرض ابتسامتيهما.
لم ينتابني شعور الشفقة عليهما كما ينتابني عادة عندما أرى طفلاً جائعاً يأكل من النفايات أو رجلاً يتراجع بعيداً عندما يشعر أن أحداً قد يراه ينبش في أكياس القمامة. كان شعوري أقرب إلى الخوف، ليس منهما تحديداً إنما مما اعتبرته إرهاصات نهاية العالم، فأزمة النفايات بدت بعيدة الحل، كما أنه قد يكون في أماكن أخرى أشخاص مثلهما، وقد يصابون بالأوبئة، وها هي الأوبئة بدأت تصيب حتى من لا يأكل من القمامة مباشرة، وقد تكون هذه العادة معدية، وقد تستشري، هواية أو إدماناً، وربما لاحقاً ستصبح ظاهرة ويتحول جيل كامل إلى آكلي نفايات غير آدميين، وينتقلون من آكلي نفايات إلى آكلي بشر، حين لا يتبقى نفايات لتؤكل، وهكذا تتلاحق الخطوات نحو نهاية العالم!
لا تعتبروا هذا التخيل ضرباً من السخافة.. ربما صغته بهذه الطريقة من باب السخرية لا أكثر.
قبل أزمة النفايات التي اجتاحت لبنان، وقبل انبعاث روائح حرائقها ونتانتها، وقبل انضمام عصابات وشخصيات إلى قائمة النفايات المعنوية، كنت جالسة على شرفة منزل في الجبل، أراقب الشارع الخالي إلا من سيارات تمر مسرعة كل ربع ساعة، وعلى رأس الشارع مكب للنفايات، لا يشكل مكانه أي تشويه للوحة الطبيعة.
المشهد الذي شوه اللوحة بنظري كان الرجل الذي خرج من المنزل المجاور يحمل صحن طعام شبه فارغ، يرمي ما تبقى منه بواسطة ملعقته في مكب النفايات، وكأنه سلة مهملات داخل مطبخه. وبعد أقل من نصف ساعة، خرج مجدداً يعاين المكب، يخرج أكياس النفايات المربوطة بإحكام ويفتحها أمامه، ويبحث فيها، فأراه يكمل قضم تفاحة أو قطعة خبز، ثم يعيد الأكياس إلى داخل الحاوية.
كان الرجل في أواخر الأربعينيات من عمره، رث الثياب، مطلق اللحية ويحتاج حتماً لقص شعره، شاهدته مرات في أوقات الصباح وبعد الظهر خارجاً من منزله أو عائداً، أي في أوقات دوام عمل، ولمحته مراراً يتناول الطعام مع عدة أشخاص يبدون عاديين، نعم يظهر عليهم الفقر، لكنه ليس الفقر الذي يدفع بصاحبه للأكل من حاويات القمامة.
تعجبت من المشهد، لكنني سرعان ما محيته من ذاكرتي، على الرغم من الأسئلة التي دارت في قرارة نفسي. لكن، يبدو أن بعض الأمور التي نجتهد في تناسيها لن تنسانا بالضرورة بدورها، فعاد المشهد ليتكرر يومياً أمام ناظري.
في أيام نهاية الأسبوع، كانت الحاوية تمتلىء بالأكياس، نتيجة امتلاء البيوت في المنطقة بالزائرين الذي يقيمون المأدبات والحفلات، وكان صاحبنا يسارع بالتوجه إلى الحاوية مباشرة، عندما ترمي خادمة كيساً من هنا، أو يلقي رب أسرة كيساً من هناك، ثم أكتشف أن للرجل أخت (علمت ذلك لاحقاً) تمتهن الهواية نفسها، وهي مثله في الهيئة والمظهر والحركات، عدا شعرها الأبيض الطويل الذي تطلقه من دون تسريح، كنت أراه يشير إليها للتوجه إلى مكب آخر غير الذي يختص هو به، وكانا في بحر الأسبوع حين تشح أكياس النفايات، تظهر رجلاهما في الهواء من خارج المكبات بينما يغوصان لنصف جسدهما داخلها.
في مخيلتي، أردت أن أسألهما لماذا يفعلان ذلك؟ لكن روايات الجيران التي تقول إنهما مريضان عقليان، وأحياناً كلمات وقصص مرعبة عنهما، مدعمة بالابتسامة الغريبة المقلقة، بل المخيفة أحياناً التي يطلقانها، كلما نظرا إلى أحد أو التقت عين المارين بعينيهما أو حتى بمعاينة كل من يقف على شرفات المنازل، أو يمر بجانبهما، وأنا منهم، منعتني.
لكم أن تتخيلوا بأنفسكم ماذا حدث عندما بدأت أزمة النفايات في لبنان. لكن، باختصار لقد ضاعفا زياراتهما إلى الحاويات وتزايد معها عرض ابتسامتيهما.
لم ينتابني شعور الشفقة عليهما كما ينتابني عادة عندما أرى طفلاً جائعاً يأكل من النفايات أو رجلاً يتراجع بعيداً عندما يشعر أن أحداً قد يراه ينبش في أكياس القمامة. كان شعوري أقرب إلى الخوف، ليس منهما تحديداً إنما مما اعتبرته إرهاصات نهاية العالم، فأزمة النفايات بدت بعيدة الحل، كما أنه قد يكون في أماكن أخرى أشخاص مثلهما، وقد يصابون بالأوبئة، وها هي الأوبئة بدأت تصيب حتى من لا يأكل من القمامة مباشرة، وقد تكون هذه العادة معدية، وقد تستشري، هواية أو إدماناً، وربما لاحقاً ستصبح ظاهرة ويتحول جيل كامل إلى آكلي نفايات غير آدميين، وينتقلون من آكلي نفايات إلى آكلي بشر، حين لا يتبقى نفايات لتؤكل، وهكذا تتلاحق الخطوات نحو نهاية العالم!
لا تعتبروا هذا التخيل ضرباً من السخافة.. ربما صغته بهذه الطريقة من باب السخرية لا أكثر.