آذار كلّ مرّة

17 مارس 2016
وسط مدينة بيروت (Getty)
+ الخط -
آذار 2014

وصلت حديثاً، لا أعرف عن "الدورة" سوى اسم الأغنية الشعبية، ولا أعرف عن لبنان سوى الروتين نفسه، أي الأغاني. كنت أنوي العيش ككل طامح، براحة بال، وهدوء، لكن!، لا مفر، المدن التي تغلي تدريجياً، ستحرقك دفعة واحدة، بكل هدوء. 
في الشوارع، ينمو الروتين على الأجساد كأنه نبتةٌ آلِفوها، كالعُليق، يُحيط بهم وبنا. 
مرت بي سنة كاملة، لم أُبصر بها سوى رُفوف البضائعِ وغبارَ المخزن، ولا شيء في الداخل، خاوٍ كبحرها، كشوارعها حين تعلو أصوات الريح، الروتين يبدأ، حين يبدأ التشبث بما وجدوا قومهم عليه، تمجيد المجلس، ونظرة الذعر من الأخرين، حتى من أنفسهم.
 شهور مضت وأنا أذهب لشارع الحمرا كل مرة، أجد بعضنا لم يتحرك من مكانه كأنه خُلق ليفنى جالساً في مقهى، خُلق ليقطع الصمت أوردته، أو يركب البحر فجأة، ويرمي كل هذا اللبنان في زجاجة مغلقة.
 هذه عادة الهاربين من الحرائق.

2015 آذار
 

خسرتُ أبي، لبنان لا يبكي مثلنا، ولا يعرف إشباع الرأس بالتراب، خسرتُ أبي، ولم أكسب شيئا هنا، كانت كسوتي سميكة كطبقة فوق القلب، تتشكّل كلّ يوم حين يمسّه تصحّر، يصبح الخفقان روتينياً فقط، ولا روح.
كلمت أمي وأخوتي، يبكون، ولبنان في الخارج يناقش مستقبل ومصير جروده وأسراه وقواته، خطر يقترب كل ثانية، 
لا أذكر أنني رأيت أحداً خائفًا من الآتي مثل الخوف الذي أعرفه، أنا لم أخف مثلهم، عادة في اللبنان تكسبها، وتكسبك.

إقرأ أيضاً:أنا والباص

لم أتخلص من حزني بعد، هذه عادة أخرى تكسبها هنا، الحزن معمر هنا، كزمرة الدمٍ يُمنح، الجدران تلتصق بي، الشوارع التي أصنعها كل يوم هي نفسها، تعرف أنني لا أحدث أحدًا على الهاتف، لكنني بحاجة لأتكلم، أصطنع أنك على الخط يا بعيدة، وكل يوم أغلق الخط قبل أن تقولي لي "انجو". 
هذه عادة الخائفين في كل مكان.

2016 آذار


أنا اليوم أبكي أكثر من قبل، لا أعرف لماذا، لكن شيئاً ما تغير. لعل القوم قد رحلوا قبل القطاف، لا أسمع أصواتاً قادمة من المكان الذي كان الصراخ عادته، صار البشر يصمتون كثيراً، شيء ما تغير، شيء ما سيصبح سمة للقادمات، سننغلق على أنفسنا كمكب نفايات يجرفه التيار، ليقتلنا. تغيرت بيروت، أصبحت باهتة، في مقتبل العمر، كأنها أرملة شعب بأكمله، تغيرت كوجه سماء في هذا الشهر الغريب، تعود بين الحين والآخر، هتافاً، أغنية، ولا روتين في عودتها، أبكي كما تبكي بصمت أكثر من ذي قبل.


آذار يعني الثورة في كل مكان، لبنان يحب هذا الصوت، يا محلاها، مسند حملنا، وجوهنا تعبت من كل هذا الصمت، لبنان لا يصمت، ولا ينطق، يهمس، يصرخ أحياناً، الكل يعني الكل، فأبكي كما تبكون أكثر من ذي قبل. 
لكن، ثمة ريح قاتلة تعبر، توقف كل شيء. 
ليس جيداً أن ترى مكتبات تغلق في بيروت، ليس جيداً في أي مكان، صحف لها اسمها وتاريخها (بغض النظر عن التوجهات) تغلق كأنها محل تجاري مخالف لأنظمة "أبو فاعور”. العطب ينمو، الزبالة تصل تدريجياً للنفوس التي تضعف أكثر مع الريح، الجو اللعين هذا سيقتلنا جميعاً، نحن الذين اخترنا بيروت كمنفى، يحزننا أكثر من موتنا البطيء، الموت المتسارع لمدينة تصل البحر بالحب بالأصالة، بنا وبهم، بالعادة الوحيدة التي يجيدها لبنان، يأخذ كل شيء دفعةً واحدة، يعانقك دائماً، ولو قبل قتلك، ولا روح.
دلالات
المساهمون