آثار ترامب على تقرير حقوق الإنسان

18 مارس 2019
+ الخط -
يستطيع من يراجع تقرير وزارة الخارجية الأميركية لواقع حقوق الإنسان في دول العالم أن يلحظ بصمة الرئيس دونالد ترامب، وإدارته، في أكثر من موضع في التقرير، وهو تقرير سنوي، يُعِدّه موظفو الوزارة في جميع الدول بأمر من الكونغرس الأميركي الذي قرر، منذ العام 1976، أن تقدّم له الوزارة هذا التقرير لقياس مدى تقدّم الديمقراطية أو تراجعها في العالم بأسره، بما فيها الدول المتقدّمة والمتخلّفة، ويتمّ استخدام التقرير من أجل دراسة الدعم الذي تقدّمه الولايات المتحدة لتلك الدول.
ولم يسلم التقرير من التأثر بسياسة الرئيس الأميركي الموجود في البيت الأبيض، ديمقراطيا أو جمهوريا، فقد خفّف التقرير من لغته الانتقادية حيال إيران والصين، تحت إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، بسبب تقارب الرجل مع النظامين الديكتاتوريين. ولكن تقرير العام 2018 يعتبر، كما يمكن للمرء أن يتوقّع، فضيحة بكلّ المقاييس لإدارة الرئيس ترامب. وليس هذا غريبا عن هذا الرجل الذي دافع بقوّة عن منتهكي حقوق الإنسان، ولم يُمضِ وقتا يذكر في معالجة حقوق الإنسان، أو يبذل جهدا حقيقيا في هذا الحقل.
ومنذ المقدمة، يوضّح التقرير، بشكل صريح، أن سجلّ حقوق البلد لا يهمّ إدارة الرئيس ترامب، ولن يكون عاملاً حاسماً في توجيه الدبلوماسية الأميركية. ويقرّر وزير الخارجية، مايك بومبيو، في ديباجة التقرير أن "سياسة هذه الإدارة هي التعامل مع الحكومات الأخرى، بغض النظر عن سجلّها، إذا كان ذلك سيؤدي إلى تعزيز المصالح الأميركية". أي أن سجلّ حقوق الإنسان لن يغيّر في مستوى التعامل السياسي الاقتصادي والأمني بين حكومة الولايات المتحدّة والأنظمة القمعية في العالم، ما دامت تلك الدول تخدم مصالح هذه الإدارة.
وسيرى قارئ التقرير أن تلك الروح ستنسحب على معظم أجزاء التقرير، ففي الإشارة إلى 
الأراضي الفلسطينية، الضفة الغربية وقطاع غزّة والقدس الشرقية، حذف التقرير عبارة "أراضٍ محتلّة"، وسمّى المناطق بشكل "محايد": إسرائيل، الضفّة الغربية، القدس، كذا. وفي تبرير وزارة الخارجية لذلك، قال السفير مايكل كوزاك من مكتب الديمقراطية وحقوق الإنسان والعمل في وزارة الخارجية: "لا يتعلّق هذا الأمر بحقوق الإنسان، بل هو إشكال يتعلّق بالوضع القانوني. وبالتالي، فإن مثل هذه القرارات يتّخذها مكتب وزارة الخارجية المسؤول عن الإقليم ومكتب المستشار القانوني للوزارة، ونحن نتبع ما يشيران به". ولكنه لم يجب عن سؤال لماذا ظلّت وزارة الخارجية 41 سنة تسمّي تلك المناطق "محتلّة".
وتلعثم السفير كوزاك أيضا، عندما أجاب، في مؤتمر صحافي يوم الأربعاء، بشأن السبب الذي كانت الحكومة الإسرائيلية الوحيدة التي سُمح لها بالتعليق على المعلومات في التقرير، وهو أمر يحدث أيضا أول مرّة، فالعادة ألا يتمّ إطلاع الحكومات على مسودة التقرير، قبل إطلاقه رسميا.
وفي السياق عينه، امتنع التقرير لأول مرّة أيضا عن تسمية الجولان، كما في السابق، بأنه "مرتفعات الجولان التي تحتلها إسرائيل،" وغيّرها إلى "مرتفعات الجولان التي تسيطر عليها إسرائيل." ويتماشى هذا طبعا مع رغبة الإدارة الأميركية المعلن علنها في اعتبار الجولان السوري المحتل أراضي إسرائيلية. وكانت صحيفة معاريف الإسرائيلية قد ذكرت أن الرئيس ترامب سوف يعلن عن سيادة دولة الاحتلال الإسرائيلي على هضبة الجولان، في أثناء لقائه مع نتنياهو، في الأسبوعين المقبلين، ليمنحه فرصة تحقيق إنجاز سياسي قبل الانتخابات. وأضافت الصحيفة أن ترامب لا يتوقف عن مساعدة رئيس حكومة الاحتلال، من خلال تصريحاته أخيرا، بما في ذلك مشاركة منشورات نتنياهو على حسابه الشخصي على "إنستغرام".
ويمهّد صديق ترامب، السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام، من هضبة الجولان نفسها هذا التحوّل، فقد وعد الرجل أن يضغط على الإدارة للاعتراف بهضبة الجولان المحتلة تابعة لإسرائيل، وذلك في جولة له مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في الجولان التي انتزعتها إسرائيل من سورية خلال حرب 1967. وبذلك قد تغدو الولايات المتحّدة أوّل دولة كبيرة تعترف بسياسة الاغتصاب الدولي.
وفي القسم الخاص بالعربية السعودية، وصف التقرير مقتل جمال خاشقجي باعتباره جريمة بشعة، ولكنه رفض أن يذكر أي دور لوليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، الذي تعتبره حكومات غربية وإقليمية، وحتى الاستخبارات الأميركية نفسها، مسؤولا عن الجريمة. وقد تهرّب السفير كوزاك عندما سئل عن سبب ذلك، وأسهب، بدلا من ذلك، في الحديث عن تحقيق سعودي مستمر، وقال "نحن في منتصف هذا الفيلم. ونأمل أننا، مع نهايته، سنحصل على مجموعة أوضح من الحقائق".
هذا جواب مخزٍ عن سؤال جاد. وأضاف "يمكن أن تكون لنا جميعًا شكوكنا أو تكهناتنا حول إلى أين يمكن لهذه التحقيقات أن تفضي. ولكننا جميعا مضطرّون لأن نعتمد الحقائق، كانت جهودنا مقادة بالبحث عن الحقيقة، وليس التأثر بالآراء.. لقد وجّهوا اتهامات رسمية لبعض 
الناس، ولديهم مزيد من المشتبه بهم قيد التحقيق، لكن التحقيق لم ينته بعد بأي حال، في هذه المرحلة". هذه موضوعية بائسة، خصوصا أن كوزاك رفض أيضًا أن يقول ما إذا كانت وزارة الخارجية قد راجعت تقييم وكالة المخابرات المركزية بشأن مقتل خاشقجي.
وحتّى كوريا الشمالية حظيت بنوعٍ من التغاضي في التقرير، حيث أزيلت من التقرير عبارة "انتهاكات فظيعة لحقوق الإنسان" التي كانت أربعة قرون تصف الحال في بلد صديق الرئيس ترامب الجديد، كيم جونغ أون. ولكنّ الحال تغيّر في القسم المتعلّق بإيران، فبقيت اللغة الوصفية التي غابت في كلّ الأقسام الأخرى بشأن الدكتاتوريات الأخرى. سؤال: شكرا لك. واعترف السفير كوزاك بذلك، ووصفها بأنها "سقطت سهوا".
وثمّة سقطات حقوقية وأخلاقية كبيرة أخرى تلطّخ تقرير هذا العام لحقوق الإنسان، فقد قلّص معظم الانتهاكات الرئيسية لحقوق الإنسان التي تؤثر بشكل غير متناسب على النساء والفتيات في جميع العالم، وأغفل مثلا "الحقوق الإنجابية" التي تعطي المرأة الحقّ في الإجهاض، في حال تعرّض الأمهات للخطر، وكذلك الحقّ في تنظيم الأسرة ومنع الحمل. وأهمل تاريخا من الاعتراف واسع النطاق بأن تمكين حقوق الإنجاب للمرأة يمكن أن يؤثر إيجابًا على حقوق الإنسان الأساسية الأخرى، وأن العكس أيضا صحيح. ومثال ذلك وفيات الأمهات التي تحوّلت من أنها مجرّد مأساة عائلية أو أزمة صحية، لتغدو فشلًا في التزامات حقوق الإنسان. وكشفت تحقيقات حقوق الإنسان المتعلقة بوفاة الأمهات أنه عندما تموت النساء من أسباب مرتبطة بالحمل يمكن الوقاية منها، فمن المحتمل أن تكون هناك سياسات وممارسات وقوانين توجِد بيئةً لا تقدر حياتها فيها.
يترك الرئيس ترامب آثار أقدامه الكبيرة في كل درب يسلكه، والآن جاء دور هذا الحقل الحسّاس: حقوق الإنسان. لا يتمتّع ترامب بأي حساسيةٍ تجاه حقوق الإنسان، وهو يرمي وراء ظهره بكل حقّ في سبيل مآربه ومصالحه الضيّقة. لقد انتخب الأميركيون الرجل، وعليهم الآن أن يعيدوا التفكير في خيارهم.
8B0BB846-CF42-461B-9863-1B914FC64782
8B0BB846-CF42-461B-9863-1B914FC64782
وائل السواح

باحث سوري في قضايا المجتمع المدني وحقوق الإنسان. عضو في المكتب التنفيذي لرابطة الكتاب السوريين ورئيس تحرير موقع "سيريان أبزرفر" ومسؤول تحرير في موقع الأوان.

وائل السواح