"3 لوحات" لمارتن ماكدوناه: مفاجآت غير مميّزة

07 مارس 2018
فرانسيس ماكدورماند: أفضل ممثلة (فيسبوك)
+ الخط -
يبدأ فيلم "3 لوحات خارج إيبينغ ـ ميزوري"، لمارتن ماكدوناه، بشكل خاطف تمامًا لأنفاس المشاهدين: سيدة تدعى ميلدريد (فرانسيس ماكدورماند)، في الخمسينيات من عمرها، تستأجر 3 لوحات إعلانية ضخمة في مدخل المدينة التي تعيش فيها، وتكتب عليها جملاً تُدين رئيس الشرطة بِلْ ويلغوبي (وودي هارلسون)، المسؤول عن التحقيق في قضية اغتصاب ابنتها ومقتلها، متسائلةً ـ فيها ـ عن سبب عدم إلقاء القبض على الجاني، لغاية الآن. 

ينتشر أثر اللوحات. يكون الموقف معقّدًا جدًا، مع إدراك أهالي البلدة أن ويلغوبي مُصاب بمرضٍ سرطانيّ، وأن موته متوقّعٌ خلال أشهر عديدة مقبلة، ما يصيبهم بالغضب الشديد تجاه تصرّف ميلدريد، التي يعتبرونها قاسية بشدة.
في ربع ساعة فقط، يخلق الفيلم موقفًا أخلاقيًا معقّدًا للغاية، حول من المذنب فعلاً، ومن الأحقّ بالغضب والتعاطف.

بعد تلك البداية العظيمة والخاطفة، التي تُبشِّر بفيلمٍ من "العيار الثقيل"، تبدأ الأمور في الخفوت مع تقدّم أحداثه. صحيح أن الفيلم غير متوقع تمامًا، وأنه يمرّ في انحرافات حادّة، في مسارات عديدة؛ وصحيح أن المُشَاهِد يستحيل عليه، في لحظةٍ ما، أن يتخيّل ما سيحدث. لكن هذا كلّه ـ على عكس ما يبدو ـ ليس ميزة بحدّ ذاته، إذْ لم تكن المفاجآت والانحرافات الدرامية "منطقية"، بالنسبة إلى الأحداث وبناء الشخصيات.
هذا كلّه لن يحدث في الفيلم. فبعد بدايته الخاطفة، تبرز أهمّ مشاكله (وهذا غريب): السيناريو (ماكدوناه نفسه).


غريبٌ، لأن السيناريو ـ تحديدًا ـ أبرز النقاط التي يُمدَح الفيلم بسببها. فهو فائز بـ"جائزة أورسيلا لأفضل سيناريو"، في الدورة الـ74 (30 أغسطس/ آب ـ 9 سبتمبر/ أيلول 2017) لمهرجان البندقية السينمائيّ. كما أنه كان مُرشَّحًا لـ"أوسكار" أفضل سيناريو أصلي (2018)، ما وضع الناقد ـ المُشكِّك في جودة السيناريو (ككاتب هذه السطور) ـ في موقف مربك، أو في مقابل الجميع.

هذا شكل المسألة. سيناريو مكدوناه مشغول تمامًا بصنع أحداث وانقلابات غير متوقعة. لكن ذلك يفتقد، في لحظات عديدة، أيّ منطق درامي، إما بسبب صدف كثيرة ومتكررة، وإما في تغيير تركيبة الشخصيات بشكل سريع جدًا بالنسبة إلى زمن الفيلم. مثل على ذلك: الحريق المحوري والضخم الذي يحدث في قسم الشرطة، فيُصاب الضابط جايزون ديكسون (سام روكويل) بجروح، بسببه. فالسيناريو يبني ذلك عبر عددٍ كبير من الصدف المتتالية: يذهب ديكسون إلى القسم ليلاً، ويضع "سمّاعات" في أذنيه، ويعطي ظهره للشارع أثناء قراءته خطاب ويلغوبي، فلا يسمع ولا يرى أن ميلدريد تقف على الناحية الأخرى، في تلك اللحظة، وتُشعل النار في القسم. يُدرك ديكسون متأخّرًا اندلاع الحريق، فيقفز إلى الخارج مُصابًا بجروح.
وعندما تراه ميلدريد، التي تكون أكثر الناس عُرضَةً للإدانة، يظهر فجأةً جيمس القزم (بيتر دنكلايج) المُعجب بها (يا للمُصادفة)، فيقرر التستّر عليها، والقول إنهما كانا معًا لحظة الحريق، فيُنقَل ديكسون إلى المستشفى، ويوضع (يا للمُصادفة أيضًا) في الغرفة نفسها مع رَدْ ويلبي (كاليب لاندري جونز)، المسؤول عن تأجير اللوحات الإعلانية، الذي اعتدى ديكسون عليه بعنف، في وقتٍ سابق. هنا، يحدث مشهد درامي ضعيف بينهما، مبنيًا على هذا التتابع من الأحداث الغريبة، في 5 دقائق تقريبًا، تكون محورية جدًا في الفيلم.

هذه المصادفات و"العرج" الدرامي في مسار الأحداث، تقع كلّها لأن مارتن مكدوناه راغبٌ في مفاجأة المُشَاهد، وفي منحه لقطات غير متوقّعة. هذا مستمر حتى النهاية، مع تغييرات سريعة وغير منطقية في شخصية ديكسون، وتصرّفاته.
ذلك هو عيب السيناريو وخلله، الذي يفتقد ـ أحيانًا كثيرة ـ لأيّ مصداقية. كلّ ما يحدث فيه، هو رغبة الكاتب والمخرج، المعروف سابقًا بصنعه انقلابات وتحوّلات خفيفة وذكية، في فيلم جيد ودراما كوميدية خفيفة، كـ In Bruges (2008). لكن عملاً فيه طابع مأسويّ وسوداوي، كـ"3 لوحات..."، فإن الخيارات تلك غير مناسبة أبدًا.

إيجابيّة الفيلم كامنة في 3 أداءات تمثيلية رائعة:
فرانسيس ماكدورماند روح العمل وقلبه النابض ("أوسكار" أفضل ممثلة 2018 عن دورها هذا). ممثلة تكون، أحيانًا عديدة، العنصر الوحيد الذي يتيح تصديق أن هناك مأساة كبيرة تحدث. تغوص داخل شخصية أمّ وسيدة قوية، تعاني وطأة اغتصاب ابنتها وموتها. لذا، يمكنها أن تفعل أي شيء، مهما بدا مجنونًا، ورغم أن أناسًا كثيرين يقولون لها إنه غير مقبول، وذلك كي تجذب الانتباه إلى قضيتها وحزنها.
هناك أيضًا وودي هارلسون، الذي يمنح شخصية بِلْ ويلغوبي" حضورًا كثيفًا. ورغم انتهاك السيناريو لفكرة الخطابات، التي يكتبها لآخرين، ويتمّ استخدامها 3 مرات في نصف ساعة فقط؛ إلا أنّ صوته وحركته وطريقة تعامله أمور تبقى مؤثّرة إلى ما بعد انتهاء الفيلم.

أخيرًا، سام روكويل، الذي قدّم أداءً فيه خليط مربك من الشخص الانفعالي الحادّ، الذي يمكنه إثارة النفور أحيانًا، ومع ذلك يتعاطف معه المُشاهدون في اللحظة التي تليها. أداء ممتاز، إلى درجة تدفع، غالبًا، إلى نسيان فجوات شخصيته ("أوسكار" أفضل ممثل في دور ثان، 2018).
المساهمون