"وَطَنيّون" في الخليج

19 مارس 2017
+ الخط -
لم تكن "الجنسية" في الخليج خلال عقودٍ منصرمة، كما صارت في العقد الأخير، أداة أساسية من أدوات الصراع السياسيّ الداخلي في كل الأزمات التي مرت بها منطقة الخليج العربي أخيرا، وفي جميع دولها تقريباً. تاريخياً، حكمت الظروف الاجتماعية والاقتصادية في منطقةٍ اعتادت، وبشكل طبيعي، أن تكون مفتوحةً على حركة السكان عبر الحدود من قبائل ممتدة ورعاة رُحّل ووافدين مقيمين مؤقتاً، أن تحضر فيها مشكلة التجنيس والحصول على الجنسية بشكلٍ ثابت، لكنها كانت مشكلةً إدارية، أكثر من كونها مشكلة سياسية. وعلى الرغم من الظلم والحرمان الجماعيّ من حقوق أساسية الذي تنطوي عليه قضية "البدون" في الخليج، إلا أنها (على ما يظهر) لم تكن تنطوي على استهدافٍ سياسيّ لجماعاتٍ اجتماعية معيّنة، والأهم أنها لم تكن (قبل عقدين أو ثلاثة) إحدى أقسى أدوات السلطة التي تستخدمها في العقاب السياسيّ الذي يمتدّ من عقاب الفرد إلى عقاب العائلة والأبناء والعشيرة بنوعٍ من النفي وإنكار الوجود قانونياً.
خلال العقدين الماضيين، تحولت الجنسية إلى أداةٍ لحلّ مختلف أنواع المشكلات السياسية الجديدة أو القديمة التي تضخمت إلى حدّ خطر، بدايةً من سحب أو إسقاط الجنسية من أجل التخلص من المسؤولية السياسية عن الأبناء الضالين من أعضاء تنظيم القاعدة، مروراً بسحب الجنسية، بوصفهِ حلاً للإشكال الطائفي من خلال نفي الرموز الطائفية، وسحب الجنسية بوصفهِ عقاباً عاماً لجماعات اجتماعية معينة، جرّاء موقفها السياسي أو ولاءاتها، وصولاً إلى سحب الجنسية، بوصفهِ جواب السُلطة على فِعل المعارضة أو ممارسة الحقوق السياسية الدستورية، وهي أقصى نقطة من إفراغ الدساتير والقوانين من معناها. والمهم هنا أنّ مفاهيم مثل
"المواطنة" و"الجنسية" ملازمة لمفهوم الدولة، وكُل تآكل يطاول وزن "الجنسية" وقيمتها في الدولة الخليجية، هو تآكل يطاول مشروع الدولة ذاتها في هذه المنطقة في الوقت نفسه، وبأكثر من معنى. فبينما يتآكل مشروع المواطنة (وهي لم تتحقق في الخليج على أية حال) إلى جنسية، والجنسية إلى حالة من الولاء الشخصي، والخضوع غير المشروط للحُكم، يتآكل، في الوقت نفسه، مشروع الدولة إلى مشروعٍ للحفاظ على استمرارية النظام السياسيّ، والنظام السياسيّ يتآكل إلى مجموعة معينة من الأفراد وامتداداتهم السُّلالية.
وتآكلت كل الأفكار والممكنات لحلّ المشكلات السياسية والاجتماعية وقضايا حرية الرأي إلى فكرة وحيدة، هي النفي القانوني والمكانيّ إن أمكن لكلّ صحافيّ أو ناشطٍ مزعج أو خطيب جامع يثير القلق، أو حتى رجلٍ عاديّ ارتكب جنحةً تصادف أن التقطتها العدسات، والفرصة الوحيدة للعودة من هذا المنفى هي ممارسة الاستعطاف للوجدان الأبوي، ورحمة الراعي. وانعكاسا لهذا التآكل، طُبّع المناخ العام في الخليج، خلال الأعوام الماضية، على الانحطاط بالحديث، صراحة أو ضمنياً، عن المواطنة إلى الحديث عن البصمة الوراثية والسُلالات والأجداد ولون البشرة واللهجة الأصلية واللهجة الدخيلة، في حالةٍ متطرفةٍ من تحليل الإنسان إلى عوامله الأولية، اكتسب الحُلُم بمجتمع ذي بُعدٍ واحد شرعية وجرأة في ظل حلم منظومة الحكم بدولةٍ ذات بُعدٍ واحد. وسيُسجّل التاريخ أن هذا التآكل والتداعي كان يُقدّم بوصفهِ حالةً من استعادة زمام النظام وحفظ الأمن وحماية البلاد من الدخلاء والمخرّبين والفائضين عن الحاجة، يقودها "الوطنيّون" المخلصون.
قد تكون مصادفةً، وقد لا تكون كذلك، لكن أدبيات قانونية عربية تُترجم كلمة Nationality إلى "وَطَنية"، بدلا عن "جنسية"، فحَمَلة جنسية دولةٍ ما هم "وَطَنيّوها"، والكلمة تحمل معنى
الارتباط القانوني الذي تبلور، في وقت حديث نسبياً بين الفرد والدولة، من دون التطرق إلى عبء الإرث السياسيّ الثقيل للكلمة الأعرق "مواطن" (Citizen) التي لم تعد تنفكّ عن مفهوم المشاركة السياسية، وباقي الحقوق المدنية والاجتماعية، فكأنما "الوطنيون" الذين ينشطون من أجل دولة البُعد الواحد هم أساساً التجسد الحيّ لقيم التحوّل إلى مجرد جماعةٍ من حَمَلة الجوازات بلا أي ممارسةٍ تقتضيها هذه الوثائق، ما خلا الاستشراس والتأليب على كل من هو خارج هذا النسق "الوطني" وحالة التآكل الشامل.
ليست مصادفةً على الإطلاق أن "الوطنيين" أنفسهم الذين ينشطون في تشجيع (وتأييد) الفرز الاجتماعي بين أصيل ودخيل وتحليل الناس إلى بصماتهم الوراثية، هم أنفسهم من ينشطون بحماس اليوم في ممارسة "وطنيتهم"، عبر إزاحة مشكلات التنمية المتراكمة، ووضعها على كاهل الوافدين والمقيمين في الخليج، بالمذهب العِقابيّ نفسه الذي يعاملهم كأنهم غُزاة مقتحمون ولصوص سارقون، ويرغب في حرمانهم من التطبب والتعليم والطرقات، ومن كُل أبعاد وجودهم بشرا، لكنه يرغب، في الوقت نفسه، في الاحتفاظ بهم قوةً عاملة تُساهم في إبقاء الأعمال جارية، والأسعار رخيصة. هذا النوع من "الوطنيين" لن يتطرّق إلى دور الخطط والسياسات في الإخلال بالتركيبة السكانية، ولا إلى دور النافذين وأصحاب الأعمال في جلب الوافدين من أوطانهم، لأنهم عمالة رخيصة، ولا إلى مسؤولية الحكومات عن الفشل التنموي الذي أحدث حالة التزاحم والندرة، لأن "الوطنية" تقتضي أن تمتنع عن جميع هذه المقاربات، وتكتفي بتوجيه عدوانيتك نحو الغرباء، في حقبة وصلت فيها التركيبة السكانية في بعض دول الخليج وإماراته إلى أقصى حدود الخلل، وبسياساتٍ مقصودة، ولن تتغير في المدى المنظور، لكنّ مهمة "الوطنيين" تقتضي العمل في تصريف الفشل والاحتقان والمشكلات، في اتّجاهات "آمنة".
ليسَ من قبيل الإطراء على الإطلاق أن يوصف المرء اليوم بـ"الوطني".
@Emanmag
avata
إيمان القويفلي

كاتبة سعودية، باحثة في علم الاجتماع