"ولادة نجمة": نسخة تجارية تُمتِّع الجمهور

19 ابريل 2019
"ولادة نجمة" في عالم استهلاكي (فيسبوك)
+ الخط -
في "ولادة نجمة" (2018) لبرادلي كوبر، ممثلًا ومخرجًا، يدخل نجمُ غناءٍ حانةً. يمكن للنجم أن يوقّع اسمه حيثما يشاء لشابات محيطات به. المكان يضجّ بالحياة. إذا كان هناك من مكان يمنح مديري التصوير فرصة للّعب بالضوء والظلّ والدائرة اللونية، فهو الـ"بار" بعد منتصف الليل. هناك، بعد تعب الكلمات، يحلّ الصمت، وتعرض الكاميرا أشكال التواصل غير اللغوي. تواصل الأجساد بالحركة والكأس والعين، والإشارة الموجزة إلى النجم الملك.

من سلوك المعجبين بالنجم يظهر قعر الجحيم الذي يعيشه الفرد حين يكون نكرة. لا شيء يعادل كثافة هذا الجحيم إلّا حلم الفرد بالشهرة والمال، كي يُغيّر وضعه من الأسوأ إلى الأروع دفعةً واحدة. حقّق المخرج هذا الحلم لملايين مشاهدي فيلمه، الذي تجاوزت إيراداته عشرة أضعاف ميزانيته، البالغة 36 مليون دولار أميركي، بينما بلغت إيراداته الدولية 434 مليونًا و188 ألفًا و866 دولارًا أميركيًا، منذ بداية عروضه التجارية في 5 أكتوبر/ تشرين الأول 2018. حقّق الحلم على الشاشة لنادلة شابة نكرة (ليدي غاغا)، ذات جمال متوسط، لكنها تصير نجمة حين تلتقي مغنيًا مشهورًا.

في البداية، يخاطب المغني العريق الشابة الحالمة بالشهرة: "احفري في روحك لتتقدّمي. حاولي أن تكوني أنت شخصية متفائلة". شخصية تتطوّر نفسيًا واجتماعيًا، وتحقّق ذاتها. بفضل حبّها للفن والمغنّي، تمكّنت من فعل هذا كلّه. حبّ قوامه الوفاء والحنان والتسامح. إنه الحبّ كما تسوقه وصفات برامج التنمية البشرية. تنمية تزعم صناعة النجوم بتفاؤل مفرط.
يلتقط "ولادة نجمة" لحظة تحوّل تاريخي في الفن. تذكّر شخصية المغنّي جاكسون ماين (كوبر) ولباسه وإيقاعه براعي بقر تجاوزه الزمن، بينما تستعين المغنية آلّي كامبانا (غاغا) بنمط حديث، فتقدّم رقصًا ميكانيكيًا متكررًا يخالف الرقص التقليدي، الذي يعتمد على الردفين والقدمين. صارت المغنية تركّز على حركة جسدها أكثر من عيش أحاسيس الأغنية التي تؤدّيها.



الأغنية تخاطب الأذن، وجسد الراقصة يخاطب عين المُشاهد. الجمهور يطلب المُشاهدة أكثر من الاستماع. للتدرّب على هذا الأسلوب، سلّمت المغنية نفسها لمدير أعمال يفهم قانون السوق. النتيجة: مزيد من الميكانيكية، ومن الأرباح. لم تعد النجمة شخصًا، بل صارت مشروعًا تشتغل عليه شركة خاصة تديره وتلمّعه. هذه خطوات صناعة النجم في مجتمع استهلاكي.

نادلة نكرة تصير نجمة. ما أروع التحوّل. المؤسف أن هذا حلم ربما يتحقّق لشخص واحد بين عشرة ملايين آخرين. لكن الفيلم يتجاهل هذا الواقع، ويقدّم بدلاً منه وعيًا سعيدًا، يفترض أنّ الخير قادمٌ، لذا قلّل المخرج من الدراما، وزاد الجرعة العاطفية. جرعة تتجاهل وقائع متداولة، إذْ كشفت الصحف مرارًا أخبار صناعة النجوم في مسابقات التلفزيون، التي تحوِّل حياة المتنافسين إلى جحيم. تلفزيون يطلب فنونًا بصرية للاستعراض. ربما قتل مايكل جاكسون نفسه وهو يتدرّب بكثافة ليسحر جمهوره.

في كتابه "نجوم السينما"، يتحدّث إدغار موران عن تكوّن النجوم وتحوّلات حياتهم. يصير النجم إلهًا صغيرًا. يصير سلعةً أيضًا. يجب تعليبه جيدًا لتسويقه. حاليًا، استولت المغنية غاغا على "ولادة نجمة"، وصار الفيلم يُنسَب إليها أكثر مما يُنسَب إلى المخرج، لأن أغنيته الرئيسية فازت بـ"أوسكار" أفضل أغنية (2019)، كما شوهدت مئات ملايين المرات. في الفيلم، ردّت النجمة على الساخرين من أنفها الكبير. صارت الإشاعات عن علاقة محتملة بين المخرج والمغنية دعايةً مجانيةً للفيلم.

في "ولادة نجمة"، إيقاعٌ سريع ولقطات قصيرة ومؤثرات بصرية وصوتية. فضاء واسع مضاء بطريقة مبهجة. كاميرا محمولة تتحرّك باستمرار، ما يجعل اللقطات المختلفة تتدفق لمنح المُتفرّج ما يطلب. فيلم خفيف لمُتفرّج يبحث عن تسلية. فيلم يستهدف وجدانه. اسمه مشتقّ من الفرجة، وهي هدفه.



"ولادة نجمة" مُصمَّم خصيصًا لشباك التذاكر. هناك منطق تجاري في طريقة السرد، لإمتاع جمهور يعشق الإيقاع السريع. وصفة مزدوجة: صوت وصورة. على منصّات الغناء أمام الجماهير، تصير الأضواء وسيلة إثارة. برادلي كوبر مخرج يغازل مشاهديه بإعادة إنتاج أجواء مسابقات الغناء، التي تعد بتغيير مصير الموهوبين. فنانة طيبة ومتفائلة ومخلصة وناجحة، تعيش تحوّلات سريعة وسهلة.

في النصف الثاني، يزداد الصمت. حين أدرك المخرج أنه أمسك المتفرّجين، خفض الإيقاع للتعمّق في الشخصيات. عندها، ظهر ما خلف الحياة البرّاقة للنجم: فنان يُنهك جسده. هو آلة عمل. للانبعاث، يحتاج الفنانون في سنّ الخمسين إلى رفقة صبايا لتجديد طاقتهم.

سرديًا، بينما يصعد نجم الشابة المغمورة، يتدهور مستوى المغنّي. يُعجب الجمهور بالأنثى ذات الجسد المشدود، الواقفة على المنصّة. لا تهتمّ الكاميرات بذكريات النجم الغارب.

يلعب المخرج بحذر على حبلين: أولاً، حبل خصائص النوع. "ولادة نجمة" كوميديا غنائية متفائلة، تقول إنّ النجاح والشهرة في متناول اليد. ثانيًا، الحبل المشدود لممارسة الفنّ. صعوبة وتنافس وحقد، ثم سقوط المغنّي في سوداوية مدمّرة.

يعطي المخرج الأسبقية للخيار الأول. يحب المشاهدون قصص حبّ وغيرة وخصام وفراق وشوق ومصالحة وعناق وابتسامات. ربما يُضجر هذا نقاد السينما المتجهّمين، لكن المتفرّجين مبتهجون. بحسب آرثر شوبنهاور، "عدوا السعادة البشرية هما الألم والضجر".

في "ولادة نجمة" حوارات طويلة، مع شرح وتكرار للجمهور الساذج، كما في تعداد فوائد السباحة. متحدّث يقول لمُخاطبه: "تعرف لماذا؟"، ثم يجيب. يشرح المخرج للمتفرّجين السذج، وهو يضمر نظريته التجارية. يقول برادلي كوبر: "لكلّ فرد موهبة. لكن المهم أن يكون لديه ما يقوله، وبالطريقة التي يحبّها الجمهور".

هكذا استثمر المخرج معارف المتفرّجين وحاجياتهم، لتحطيم أرقام شبّاك التذاكر.
المساهمون