يتنبّأ مسلسل The handmaid’s tale (بدأت شبكة "هولو" بإنتاجه سنة 2017) بأن البشرية لن تسير قدماً نحو المزيد من الانفتاح والتحرر، ولن تساهم الاكتشافات العلمية في المستقبل برقي الإنسان ورفاهيته، كما اعتدنا أن نشاهد في أفلام ومسلسلات الخيال العلمي واليوتوبيا. وإنما على العكس من ذلك، فإن البشرية ستسيرُ في المستقبل نحو ردة دينية رجعية؛ وذلك ما يبيّنه المسلسل من خلال حكاية دولة "جلعاد" التي سيتم بناؤها على أنقاض الولايات المتحدة الأميركية، إذْ ستتمكن جماعة مسيحية أصولية متطرفة من استغلال الحرب الأهلية الأميركية الثانية، لتحكم قبضتها على البلاد، وتبني نظاماً شمولياً أبوياً ذا طابع عسكري صارم، وتحكمه تعاليم دينية مستمدة من "العهد القديم".
الجزء الأول من المسلسل، والذي يتكون من عشر حلقات، مقتبس من رواية تحمل ذات الاسم، كتبتها الكندية مارغريت آتوود سنة 1985. وعلى الرغم من أن الرواية قد سبق أن تمت ترجمتها بفيلم سينمائي سنة 1990 من إعداد هارولد بنتر، إلا أن المسلسل الذي يقوم بإخراجه بروس ميلر يتفوق على الفيلم فنياً؛ وتمت ترجمة هذه التفوق من خلال حصوله على أكبر كم من الجوائز على مدار السنتين الماضيتين.
وكما هو الحال في الرواية، فإن أحداث المسلسل يتم سردها على لسان شخصية "جون"، التي اعتقلت أثناء محاولتها الهرب على الحدود الكندية، وفُصلت عن عائلتها، وتم تطويعها للعمل كـ"أَمة" في خدمة أرض "جلعاد". فدولة "جلعاد" المحدثة نشأت على أنقاض أزمة أصابت البشرية، وهي العقم، إذْ إن استخدام الأسلحة الكيميائية في الحرب السابقة لتكوين الدولة، أدت إلى حالة عامة من العقم، تسببت بانخفاض كبير بعدد الولادات. وقد بررت حكومة "جلعاد" الذكورية أزمتها بعقم النساء، وقسمت النساء إلى عدة مجموعات بما يخدم مصلحة الدولة؛ وهن: الزوجات، الخادمات، الأمات، العمات وعاملات المستعمرات؛ وترتدي كل فئة من النساء ثياباً موحدة تشير إلى تميّز ماهيتها وواجباتها. فالأمهات يرتدين اللون الأحمر، والزوجات اللون الأزرق المخضر، والخادمات اللون الأخضر العفني، والعمات اللون البني. وترتدي عاملات المستعمرات اللون الرمادي. ووفقاً لهذا النظام اللوني التمييزي، يخلق ميلر عالمه السينمائي الخاص، والذي يشبه إلى حد بعيد عوالم المجتمعات الاشتراكية؛ فيتم استخدام الممثلين ككتل لونية تتحرك وفقاً لقواعد ميكانيكية تترجم الحالة القطيعية التي وصلت إليها النساء في مجتمع "جلعاد"، ولتكون حلقات المسلسل الأولى محاولات يائسة من بطلة المسلسل للبحث عن فردانيتها والتمرد على النظام اللوني الذي محيت معالم شخصيتها فيه.
يضع المجتمع الذكوري في "جلعاد" ضوابط مرعبة لجميع النساء، بما في ذلك الزوجات، وتتم مراقبتهن بواسطة جهاز "عيون الله" الاستخباراتي، الذي يزرع عيناً له في كل منزل؛ وفي حال مخالفة النساء للقوانين ستتم معاقبتهن بوحشة، فتعريض حياة طفل للخطر يعاقب عليه القانون بالرجم، والميول الجنسية المثلية بالموت شنقاً، والوقاحة باقتلاع الأعين، والقراءة بقطع الأصابع. لكن حياة الأَمة هي الأكثر بؤساً في مدن "جلعاد"، إذ إن القدرة على الإنجاب هي ما تحمي النساء المذنبات من الذهاب إلى المستعمرات للعمل على تطهير الأرض من المواد الكيميائية، وجعلهن عوضاً عن ذلك يخضعن لجلسات تأهيلية بإشراف العمات، لتصبح مهمتهن فيما بعد إنجاب الأطفال لعائلات سادة "جلعاد"، وفقاً لمراسم جنسية مستمدة من العهد القديم، حيث ذكر في سفر التكوين: "هُوَذَا جَارِيَتِي بِلْهَةُ، ادْخُلْ عَلَيْهَا فَتَلِدَ عَلَى رُكْبَتَيَّ، وَأُرْزَقُ أَنَا أَيْضًا مِنْهَا بَنِينَ"، وهي الآية التي يقوم الرجل بتلاوتها قبل أن يقوم باغتصاب الأمة الممددة على ركبتي الزوجة. وبعد أن تغتصب الأمة تُجبر على التخلي عن طفلها البيولوجي لصالح الزوجة والذهاب لعائلة أخرى للإنجاب من جديد، وأثناء ذلك تعيش حياتها اليومية وفقاً لنظام خاص هو "الأفضل" للأبناء، فتأكل بنظام غذائي صارم، ولا يسمح لها بالتنزه أو الحديث عن مواضيع غير الطقس وحمد الرب، ولا يحق لها أن تمتلك شيئاً، حتى اسمها تتخلى عنه لتحمل اسماً جديداً مستمداً من اسم العائلة التي تعيش بكنفها. وباختصار، تعمل "جلعاد" على تشييء الأَمة وتحويلها لرحم يسير على أقدام وحسب.
ورغم الأساليب الوحشية في تطبيق القانون، إلا أن النساء لا ينكفئن يبحثن عن منافذ للتمرد، وذلك ما نلمسه من خلال حكاية "جون" التي تكافح طيلة الجزء الأول لتقول كلمة "لا". وينتهي الجزء الأول كما تنتهي الرواية، بنهاية مفتوحة، حيث يقوم جهاز "العيون" الاستخباراتي باعتقال "جون"، وتذهب معهم دون أن تدرك إن كان ما ستذهب إليه سيكون نهاية وحشية أم بداية وفرصة جديدة، بعد أن قام السائق "نيك" بإقناعها بالذهاب معهم.
والجزء الثاني الذي تولت آتوود نفسها مهمة تطويره، يبدأ بداية صادمة؛ فعلى العكس مما هو متوقع، لم يكتف صناع المسلسل باختيار أحد خيوط النهاية المفتوحة في الرواية لبناء حكاية جديدة منها؛ بل إن صناع المسلسل مزجوا بين جميع الاحتمالات، وساروا بها بخطوط متوازنة، لتبدأ بعقوبة وحشية، وتنتقل لبداية جديدة، قبل أن تعود إلى مراكز تأهيل الأَمات في "جلعاد" حيث يتعاد أدلجتها، وتتحول لجزء من ماكينة "جلعاد" الاجتماعية؛ وهنا يظهر دور المجتمع المحيط ليعيدها إلى مسار التمرد.
وينتهي الجزء الثاني بتضافر مجموعة من المتمردين لمساعدة "جون" على مغادرة "جلعاد". ولكن "جون" تتردد في اللحظات الأخيرة، وتكتفي بالنهاية بإنقاذ ابنتها الجديدة، وتقرر أن تبقى لتشارك في التمرد، وللبحث عن ابنتها الأولى وتنقذها، لتعلن بنظراتها عن وجود جزء ثالث، قبل أن يتم الإعلان بشكل رسمي عن إنتاج جزء ثالث سيقدم سنة 2019.
وجدير بالذكر أن نجاح المسلسل دفع آتوود إلى كتابة جزء ثانٍ من الرواية، ستنشره العام المقبل أيضاً، أي بعد 33 سنة من نشرها الجزء الأول.