"نيويورك تايمز": بازار أسلحة إقليمي داخل سفارة كوريا الشمالية في القاهرة

04 مارس 2018
مصر من أهم زبائن الصواريخ الكورية الشمالية (فرانس برس)
+ الخط -


"على جزيرة في قناة السويس، ترتفع بندقية (ِAK47)، بفوّهتها وحربتها المسنونة باتجاه السماء، لترمز إلى أحد تحالفات مصر الأكثر ديمومة". بهذه الصورة الرمزية، التي تستحضر تمثالًا ضخمًا قدّمته كوريا الشمالية في السابق إلى مصر تقديرًا للشراكة العسكرية بين البلدين، تحاول صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، في تقريرها المنشور أمس السبت، التوغّل في جذور العلاقة الدقيقة بين البلدين، والتي وصلت إلى حدّ شراء أسلحة كورية شمالية، والسماح لمسؤولين كوريين شماليين باستخدام سفارتهم في القاهرة كقاعدة للمبيعات العسكرية في المنطقة.

وكان "العربي الجديد" قد انفرد بكشف الأسباب الحقيقية للقرار الأميركي بتجميد جزء من المساعدات التي تقدمها لمصر سنوياً، ومن ضمنها اكتشاف معلومات موثقة تجمعت لدى الإدارة الأميركية وحصلت عليها الاستخبارات بشأن وجود عدد كبير من الفنيين وخبراء تصنيع الأسلحة والصواريخ من كوريا الشمالية يعملون في مصر داخل منظومة التصنيع الحربي للقوات المسحلة المصرية.

وترى الصحيفة أن العلاقات اليوم تجاوزت حدود ما يرمز إليه ذلك التمثال، وتعدّت التعاون العسكري التاريخي إلى آفاق أخرى تشمل تجارة الأسلحة غير المشروعة عبر طرق متحايلة، الأمر الذي أخلّ بالعلاقات "الدافئة" بين الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، والولايات المتّحدة الأميركية، ودفع هذه الأخيرة، في نهاية المطاف، إلى قطع مساعداتها العسكرية، المقدّرة بـ291 مليون دولار، في شهر أغسطس/آب الماضي، كما استلزمت فحصًا دقيقًا من مفتشي الأمم المتّحدة.

عملة صعبة

وتنسب الصحيفة معلوماتها عن شراء مصر أسلحة كورية شمالية، وسماحها للأخيرة باستخدام سفارتها في القاهرة لصفقاتها العسكرية، إلى مسؤولين أميركيين، وآخرين من الأمم المتّحدة. وقد أكّد هؤلاء أن تلك المعاملات أكسبت كوريا الشمالية عملة صعبة كانت بالغة الأهمية بالنسبة لها، في الوقت الذي انتهكت فيه العقوبات الدولية، وأشعلت غضب الراعي العسكري الأول لمصر؛ الولايات المتّحدة.


وتضيء الصحيفة على تقرير سيصدر هذا الشهر عن الأمم المتحدة، ويتضمن معلومات جديدة عن السفينة الكورية التي تم اعتراضها قبالة سواحل مصر عام 2016، وكانت تحمل 30 ألف قذيفة صاروخية تقدّر قيمتها بـ26 مليون دولار.

ويعرّف التقرير المذكور المستورد على أنّه ذراع لـ"الهيئة العربية للتصنيع"، وهي تكتّل الصناعة العسكرية الرئيس في مصر، ويرأس السيسي نفسه اللجنة التي تشرف عليها.

يشار إلى أن صحيفة "واشنطن بوست" كانت أوّل من كشف عن تلك السفينة في تقرير نشرته مطلع أكتوبر/تشرين الأول العام الماضي، ووصفت احتجازها بأنه "أكبر عملية حجز للذخيرة في تاريخ العقوبات المفروضة على كوريا الشمالية"، مفصّلة كذلك أنه رغم تعاون السلطات المصرية في ضبط السفينة بعد ورود معلومات استخبارية من واشنطن، إلا أن الوجهة النهائية للأسلحة كانت هي مصر نفسها.

وتتابع "نيويورك تايمز" أن دائرة الإعلام الحكومية في مصر ردّت على أسئلة الأمم المتّحدة بخصوص التقرير مصرّحة بأن "السلطات المصرية المختصة اتخذت جميع الإجراءات اللازمة فيما يتعلق بالسفينة الكورية الشمالية بشفافية تامة وتحت إشراف" مسؤولين في الأمم المتّحدة، وفق ما كتبت الصحيفة.


ورغم حديث وزير الخارجية المصري، سامح شكري، خلال مؤتمر صحافي مع نظيره الأميركي، ريكس تيلرسون، الشهر الماضي في القاهرة، عن أن العلاقات مع كوريا الشمالية "تقتصر على التمثيل، وليس هناك تقريبًا أي تعاون اقتصادي أو في مجالات أخرى"؛ فإن الصحيفة تنقل عن مسؤولين أميركيين قولهم إن التمثيل الدبلوماسي في السفارة الكورية الشمالية "هو المشكلة"، بالنظر إلى انخراطه في مضاعفة صفقات السلاح الإقليمية.

وبالإضافة إلى ذلك، فإن واشنطن قلقة من أن كوريا الشمالية، التي تعدّ مورّدًا قديمًا لتكنولوجيا الصواريخ البالستية إلى مصر، لا تزال تصدّر لها أجزاء من تلك الصواريخ، وفق ما يقوله للصحيفة المتخصص في شؤون كوريا الشمالية بمعهد "ميدلبري" للدراسات الدولية، أندريا بيرغر، مضيفًا أن "زبائن صواريخ كوريا الشمالية البالستية هم الأكثر إثارة للقلق بين شركاء كوريا الشمالية، ويستحقون قدرًا أكبر من الاهتمام".

أكبر سفارة في الشرق الأوسط

على جزيرة مورقة بالنيل، يمتدّ المبنى "الفيكتوري" الراقي، المكوّن من ثلاثة طوابق، تحمل جدرانها صورًا وادعة لكيم جونغ أون، مجسّدًا أكبر سفارة كورية شمالية في الشرق. النوافذ في العادة مغلقة، كما تصوّرها الصحيفة، وفي المكان ينتشر حراس الأمن مانعين المارة من التقاط الصور.

لكن تبدو الصورة أكثر قتامة من الداخل، حيث أصبحت السفارة بازار أسلحة مزدحمًا لمبيعات صواريخ كوريا الشمالية السرية، والمعدات العسكرية منخفضة الثمن التي تعود إلى العصر السوفييتي، على امتداد شمال أفريقيا والشرق الأوسط.

وتحت الغطاء الدبلوماسي ذاته، والشركات الوهميّة، تتحدث الصحيفة عن سفر مسؤولين كوريين شماليين إلى السودان، التي كانت في حينها خاضعة للعقوبات الدولية، بهدف بيع صواريخ موجهة بالأقمار الصناعية، وفقًا لتقارير حصلت عليها الأمم المتحدة. آخرون، كما تردف الصحيفة، سافروا أيضًا إلى سورية، وقدّموا مواد يمكن استخدامها في إنتاج السلاح الكيميائي.

أما بخصوص أولئك الذين يمكثون في السفارة، فقد أقرّت الأمم المتّحدة وأميركا، في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، عقوبات على السفير، بارك تشون إل، ووصفتاه بأنه وكيل لأكبر شركة أسلحة كورية؛ وهي "المؤسسة الكورية لتطوير تجارة التعدين".

وتفصّل الصحيفة أنّ خمسة مسؤولين كوريين آخرين، على الأقل، موظّفين لدى أمن الدولة أو لدى أجهزة عسكرية مختلفة، ويستقرون في مصر، تمّت معاقبتهم أيضًا؛ أحدهم يدعى كيم سونغ تشول، وقد سافر إلى الخرطوم في 2013 كجزء من صفقة بقيمة 6.8 ملايين دولار لبيع 180 صاروخًا، وأجزاء من صواريخ أخرى، إلى السودان.


شدّ حبال دبلوماسية

خلال الأشهر اللاحقة لقضيّة السفينة الكورية الشمالية (جي شون) المذكورة آنفًا، والتي تمّ إيقافها في ميناء عين السخنة، نشبت معركة "شد حبال دبلوماسية" بين مصر من جهة، وكوريا الشمالية والولايات المتّحدة من جهتين أخريين، وفق ما تشرح الصحيفة؛ ففي الوقت الذي حاولت فيه أميركا إرسال مسؤولين لتفتيش السفينة، ابتعثت كوريا الشمالية دبلوماسيًا للتفاوض حول الإفراج عنها.

رفض المصريون كلا الطلبين، كما تستطرد الصحيفة. لكن في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2016، وافقوا على السماح لمفتشي الأمم المتّحدة بالصعود إلى متن السفينة، غير أنّه بحلول ذلك الوقت، كانت ثمّة معلومات قيّمة حول هويّة المستورد للصواريخ الكورية الشمالية، التي كانت مخبّأة تحت أكوام من خام الحديد. لكن قبل أن يتمكّن المفتشون من مقابلة الطاقم الكوري الشمالي واستجوابه، تمّت إعادتهم إلى ديارهم.

رغم ذلك، بقيت قطعة دليل واحدة متروكة على شكل اسم مستعار كتب على صناديق الصواريخ: "مصنع الصقر للصناعات المتطورة"؛ الشركة المصرية الرائدة في حقل البحث والتطوير في مجال الصواريخ، وهي تابعة للتكتل الحكومي المركزي في نطاق الصناعات العسكرية المصرية: "الهيئة العربية للتصنيع".

وفي كلّ الأحوال، لم يكن ذلك الكشف الأول من نوعه بخصوص صفقات الصواريخ السرية بين البلدين؛ ففي عام 2013، اعترضت شحنة من قطع غيار صواريخ "سكود بي" البالستية أثناء شحنها جوًا، على أساس أنها قطع من آلات معالجة الأسماك،  من سفارة كوريا الشمالية في بكين إلى شركة يسيطر عليها الجيش المصري.

المساهمون