يكتب اللاهوتي البروتستانتي كارل فريدريش بولمان (1941) في بداية كتابه "نشوء القرآن: معارف جديدة من وجهة نظر المنهجية التاريخيةـ النقدية للعلوم الإنجيلية" (صادر بالألمانية، طبعة ثالثة 2016)، بأن العالم الإسلامي ما زال ينظر إلى القرآن ككلام إلهي، وإلى الأناجيل المختلفة كمنتوج بشري.
بالفعل، يؤكّد اللاهوتي البروتستانتي، أن المنهجية التاريخية ـ النقدية، كما يتمّ تدريسها في شعبة اللاهوت البروتستانتي في ألمانيا، تنظر إلى الأناجيل، سواء كخطاب حول الإله، أو خطاب إلهي، باعتبارها كتباً بشرية، ووحدها هذه المنهجية يمكنها التمييز بين ما هو إلهي وما هو بشري في تلك الكتب، في حين أنه لا يحوم شك لدى المسلمين حول المصدر الإلهي للقرآن. ويرى أن هذا الخطاب حول القرآن في الثقافة الإسلامية، يذكرنا بالخطاب اللاهوتي المسيحي حول الأناجيل في القرن الثامن عشر، والتي كان يُنظر إليها باعتبارها وحياً إلهياً مباشراً.
لكن النظرة النقدية التي أسّست لها العقلانية والتنوير، وتطوّر المنهجية التاريخية ـ النقدية، ستعمل على تنسيب حقيقة المصدر الإلهي للأناجيل، وتسليط الضوء على الاختلافات اللاهوتية واللغوية والأسلوبية بداخلها، وهو يعتقد أنه بإمكاننا أن نقف على الخصائص نفسها في القرآن، وذلك بالنظر إلى غياب نظام للسوَر القرآنية موحد ونسقي وكرونولوجي، ومعتبراً بأن السوَر الطويلة تنتمي إلى أزمنة مختلفة.
سينتهي المطاف بالمنهجية التاريخية ـ النقدية إلى اعتبار وجود "قرآن أصلي"، خلف القرآن الذي نعرفه، وعند آخرين إلى أن هناك تأثيراً كبيراً للمسيحية الآشورية على القرآن لحظة نشوئه، وبلغة أخرى إلى ضرورة قراءة القرآن في سياق العصور القديمة المتأخرة Late Antique.
يلخّص بولمان النقاش الدائر في الدراسات القرآنية الغربية في خمس نقاط أساسية. الأولى زمن التدوين النهائي للقرآن. والثانية حجم القرآن الذي وصلنا عن الرسول. أما الثالثة فطبيعة العلاقة التي كانت تربط جماعة المسلمين بالمسيحيين واليهود. والرابعة هي الآيات التي ظهرت في مكة والمدينة. والخامسة والأخيرة هي وجود "قرآن أصلي"، كأصل للقرآن الحالي.
إذا تأمّلنا في هذه النقاط الخمس، سنجدها مرتبطة عموماً بمحاولة للتأريخ للقرآن ونشأته، وأن الهدف الأساس للاهوتي البروتستانتي في هذا المقام، هو إثبات أن القرآن لم يكتب في عهد الرسول، أو على الأقل لم يكتب كلّه في عهده، وأن أيادٍ مختلفة شاركت، وفي حقب مختلفة، في كتابته، وبلغة أخرى، إنه يريد إلحاق القرآن بالأناجيل، فمنطق العقلانية يقوم على صهر المختلف والغريب. وسيقدّم في هذا السياق "أدلة" مختلفة، أدلة "عقلانية"، عقلانيته التي تقوم على منطق الشبيه ـ لتأكيد ذلك، لكنه طبعاً سيسكت عن أدلّة أخرى، من شأنها أن تؤكّد عكس ما ذهب إليه، أدلة ترى مثلاً، أن منطق النص الديني يستعصي على كل اختزال عقلاني، كما ذهب وأوضح ذلك مؤرخ الأديان الروماني ميرتشا إلياده (1907-1986).
إن "عقل" النص يفترض، وفقاً للمنطق العقلاني الذي يعتنقه بولمان، وأركّز هنا على كلمة يعتنقه، لأن العقل تحوّل إلى معتقد مغلق في السياق الحداثي، إنه يفترض في دراسته الأسلوبية للقرآن وأنواع الخطاب القرآني (الأناـ الهو والنحن) ضرورة أن يمتلك المسلمون الأوائل الذوق الجمالي نفسه والقيم الأسلوبية نفسها، التي يمتلكها لاهوتي من القرن الواحد والعشرين، وهو ينفي إمكانية أن يفكّر ويكتب المسلمون بطريقة مختلفة، كما أنه يغفل البوليفونية التي يمكنها أن تطبع الأسلوب الإلهي، لأنه ينطلق في تصوّره للإله، من منطق يعادي الالتباس والتعدّد، وفي فهمه للغة الإلهية من أسلوبية مغلقة، توجّب أن تكون "منطقية"، "كرونولوجية" وأن يقودها السارد العليم ويخرسها متى يشاء.
إن القرآن ليس فقط ما قرأناه، ولكن ما يجب أن نقرأه. إن ما يهمنا كمسلمين من القرن الواحد والعشرين، وكجماعة يطبعها التعدّد، وتنتمي بمختلف مذاهبها ومعتقداتها وأديانها، ومنها المسيحية واليهودية، إلى الثقافة الإسلامية، ليس القراءة التاريخية للقرآن، كما تبشّر بها الدراسات الغربية، ولا القراءات "الفقهية" والأيديولوجية التي حوّلته أو تبتغي تحويله إلى حزب سياسي، ولكن القراءة الإيتيقية، التي من شأنها أن تنفض الغبار عن قيمه الكونية التي غيّبها الاستبداد، وبلغة أخرى ليس "المعرفة" (كما تقول الحداثة)، ولا "الشريعة" التي حوّلها الفقه إلى سيف مسلّط على الرقاب، ولكن "الاعتراف" (هذا المنسي من الحداثة والتقليد). وفي لغة أكثر وضوحاً: إن طريقنا إلى القرآن الكريم يجب أن يكون ليفيناسياً، رغم الاعتراض الممكن لليفيناس على مفهوم مثل الاعتراف.