"مين فيكم معلم؟"

25 فبراير 2016

من مظاهرة للمعلمين أمام مقر الحكومة الفلسطينية (23 فبراير/2016/Getty)

+ الخط -
حتى في حمّى الكوابيس، وفي أشدّها جنوناً وتطرفاً، لم يقدر فلسطيني، حتى الآن، على تخيل شرطي فلسطيني يقف أمام حاجز فلسطيني للشرطة الفلسطينية، مدققاً في هويات المارة وركاب الباصات، بحثا عن المعلمين. حدث ذلك: كان الشرطي يطل برأسه داخل السيارة، ويسأل بكل الهدوء والثقة: مين معلم فيكم؟ هذا ليس كلاماً سورياليا، ولا هو محاولة لتقليد عالم قصص زكريا تامر، العجائبية. صدقوني، هذا حدث في رام الله ظهر الثلاثاء الماضي، في أثناء توجه المعلمين والمعلمات بالآلاف، ومن مدن الضفة الغربية، إلى مظاهرة ضخمة، جرى الترتيب لها من قيادة الحراك المنتفض للمعلمين، أمام مجلس الوزراء في حي المصيون، احتجاجاً على استهتار الحكومة الفلسطينية بكرامة المعلم، وللمطالبة بطرد الأمين العام للاتحاد للمعلمين الذي يتهمه المعلمون بالتخاذل والتواطؤ مع الحكومة.
حدثت قصص عجيبة لمعلمين عديدين، تشبه سيناريوهات جاهزة لمسلسل أو فيلم أو رواية. معلم روى أنه فوجىء بشرطي يمسكه من الخلف، طالباً منه، بقوة، العودة، فإذا به يكتشف أن هذا الشرطي هو ابن زميله وصديقه في التعليم 20 عاماً. اعتذر الشرطي خجلا واختفى عن المشهد. قال معلم آخر إنه ارتبك أمام شرطي يقف أمامه، ساداً بجسده الطريق، كان الشرطي من طلابه في مدرسة سابقة، اختفى بسرعة وسط صيحات ضابطه الذي استغرب هروبه فجأة.
لم يشمل هروب الشرطة أمام معلميهم السابقين ارتباك المشاعر بين تنفيذ الأوامر والتضامن مع أعدل قضية لأفقر وأنبل قطاع فلسطيني (المعلمون). طلب شرطي من قائده إعفاءه من مهمة سد الطرق أمام المعلمين وقمعهم، والتدقيق في هوياتهم، لأن شقيقيه الاثنين معلمان مضربان، وهما الآن في طريقهما من الجنوب إلى رام الله للمشاركة في التظاهرة الكبيرة. تؤكد هذه الوقائع على نبل قضية المعلم الفلسطيني وعدالتها في عيون قطاعات المجتمع كافة. لا أحد من الفلسطينيين لم يتضامن، ولو سراً، مع كرامة المعلم المهدورة. يؤكد ذلك وجود عديدين من ممثلي المجتمع المدني والحقوقي والأطر الشعبية والنقابات والفصائل والقطاعات الأخرى، للتضامن مع كرامة المعلم. أما عن المسؤول الذي اتخد قرار نصب حواجز للمعلمين فيجب أن يحاكم، فالموضوع ليس فقط ضيق أفق، بل أيضا وقاحة لا حدود لها. المفاجأة الكبرى كانت عزيمة المعلمين، سرعة تنظيمهم أنفسهم، واتخاذهم قرار التمرد، وما تتخوف منه السلطة أن تشكل حركة المعلمين إلهاما لقطاعاتٍ عديدة تعاني من خيانة نقاباتها لها، وانحيازها للسلطة.
المعروف (ويا للمفارقة) عن قطاع المعلمين المرشح ليكون إلهاماً ونبراساً، أنه يفتقر للجسارة والمغامرة، وسريع الرضى، ويميل إلى الاستسلام. واضح أنه نجم عن تراكم الظلم سنوات طويلة غضب عفوي شديد لدى المعلم، الأمر الذي انعكس على غزارة المتظاهرين وحماستهم لعدم التراجع، على الرغم من التهديدات بتمديد الفصل وإقالة المعلمين. المخيف، في المسألة كلها، أن السلطة الفلسطينية لم تستوعب، حتى الآن، الدرس العظيم الذي استوعبته دول كثيرة، وهو أن المعلم الخانع ينتج حتماً أجيالاً خانعين، وأن كرامة فلسطين من كرامة معلميها، وأن فلسطين الحرّة تحتاج معلماً حراً، وأن صراع السلطة مع الاحتلال سيطول كثيراً، لأن مادته وخامته (الإنسان) غير مؤهلة لخوض الصراع، وهذا يرشّح مأزق المعلم إلى التمدد في زمن آخر، وسنشهد، للأسف، إطلالات كثيرة لرقاب أفراد شرطة جدد داخل السيارات، يسألون عن مهنة الركاب، والتدقيق في هوياتهم.
4855FC54-64E3-49EB-8077-3C1D01132804
زياد خداش

كاتب قصة فلسطيني، مواليد القدس 1964، يقيم في رام الله، يعمل معلما للكتابة الإبداعية، له عدد من المجموعات القصصية.