"مليشيات" تونس بعد ليبيا

27 مايو 2017

من احتجاجات تطاوين.. هل تكون مدخلا للفوضى؟ (22/5/2017/Getty)

+ الخط -
قبل حوالي عامين، كنت أتداول مع بعض الطلاب الليبيين في بريطانيا في حال ديمقراطية ليبيا التي كانت قد بدأت تترنح. وتساءلت، في حديثي، عن تكاثر المليشيات المسلحة، وتحولها من أداة لدعم الثورة إلى أغراضٍ أشبه بالخاصة. وهنا، علق أحد الشباب، معترفاً بأنه استخدم وضعه في إحدى المليشيات لتحقيق مطالب خاصة، مبرّراً ذلك بأنه ظل يطرق أبواب المسؤولين بمطالبه لأشهر بدون فائدة، وما أن قاد مجموعة من الشباب لاحتلال أحد المرافق الحكومية بقوة السلاح حتى تغير كل شيء فجأة، أصبح كبار المسؤولين يطرقون بابه لسؤاله عن مطالبه، وسرعان ما تحقق له ولمجموعته ما أرادوا وزيادة.
تذكّرت هذه الواقعة وأنا أتابع أحداث تونس المؤسفة، خصوصا في مدينة تطاوين، حيث تحولت الاحتجاجات السلمية إلى عنف، والمتظاهرون السلميون إلى مجموعات ضغط عنيف على الدولة. هنا نجد الملامح نفسها للأزمة المزدوجة في الدولة، وعجزها عن التجاوب مع مطالب المحتجين، أو إقناعهم بأن الاستجابة الفورية لبعضها غير ممكن. تزامن هذا مع اتخاذ الاحتجاج أساليب "مليشياوية"، تتشكل فيها مجموعاتٌ تبتزّ الدولة عبر اختطاف مواقع الإنتاج وإغلاقها.
والخوف كل الخوف أن تنحدر تونس في المنزلق نفسه الذي أودى بديمقراطية ليبيا، فكما أن المليشيات كانت في ليبيا رأس الحربة في إسقاط الطاغية وإعادة السلطة إلى شعب ليبيا، كان شباب تونس هم من قاد الثورة الشعبية التي جعلت الطاغية يهرب، لا يلوي على شيء. وبالقدر نفسه، فإن المليشيات هي التي أسقطت الديمقراطية، عندما رفضت الاندماج في الدولة أو
السماح لها بأداء مهامها. وقد مهد هذا الانسداد لعودة العسكر الطامعين إلى الميدان، هذه المرّة بدعوى إعادة الانضباط المفقود إلى الشارع، وفرض "هيبة الدولة". كذلك فإن تحول الجماعات الشبابية إلى "مليشيات" تغلق المناجم ومناطق إنتاج النفط وغيرها هو أقصر الطرق إلى إسقاط الديمقراطية وعودة القمع. وكما حدث في مصر وليبيا، ستكون هذه "المليشيات" أول ضحايا الوضع الجديد الذي لا يمكن أن يسمح بمثل هذه الفوضى وعدم الانضباط، مثلما أنه لن يكون أقدر من النظام الديمقراطي على الاستجابة لمطالبهم، بل إنه لن يسمح لهم بمجرّد التعبير عنها.
ولتجنب مثل هذا المنزلق، لا بد من أن تتحلى الحكومة بالشجاعة والصدق، وتواجه المحتجين بالحقائق، فمطالب المناطق المهمشة بتحقيق تقدّم في أوضاعهم الاقتصادية لا يمكن الاستجابة لها بعصا سحرية، تقول للوظائف كوني فتكون. وهي بالقطع لا يمكن الاستجابة لها ومواقع الإنتاج مغلقة، فلا يمكن أن يغلق الشباب مناجم الفوسفات لأشهر متطاولة، فيحرمون الدولة من أحد أهم مواردها، ثم يطالبون الدولة بتحقيق التنمية. فهذه الأعمال الابتزازية الحمقاء تشبه، في نتائجها، إلى حد كبير، جهود المنظمات الإرهابية التي دمرت السياحة في تونس، وإن اختلفت الدوافع. كذلك فإن عمليات تعويق الإنتاج، والاحتجاجات الأبدية، لا يمكن أن تشجع المستثمرين على مساعدة تونس في النهوض والتطور.
والمعروف أن العملية الاقتصادية في كل بلد تحتاج، أول ما تحتاج، إلى الاستقرار والانضباط. فهي مثل الزراعة، لا يمكن استعجال ثمارها. وحتى الدول الكبرى، مثل أميركا وبريطانيا، تواجه مشكلات لا يمكن التغلب عليها بحل سحري. ففي كل من البلدين، انهارت بعض الصناعات، مثل صناعة السيارات، وتحولت مدن كانت عامرة (مثل ديترويت في أميركا، وبعض مدن شمال الوسط في بريطانيا) إلى خرائب. وإذا كان دونالد ترامب يمنّي مواطنيه بأنه سيعيد هذه المدن إلى الحياة بعصا سحرية، وعبر البلطجة والتهديد، فإنه لا يبيعهم إلا الوهم.
وعليه، لا بد من أن تصارح الحكومة التونسيين بالواقع، وأن ترفض مناقشة المطالب تحت التهديد، لأن الاستجابة للابتزاز، كما فعلت الحكومات الليبية تحت ضغط المليشيات، ستكون تشجيعاً لمزيد من مثل هذه العمليات الابتزازية. وهذا سيدمر الاقتصاد والعملية السياسية، لأن المكاسب ستصل فقط إلى من هم أعلى صوتاً وأقدر على الابتزاز. وسيخسر من يجدّ في عمله ويؤدي ما عليه تجاه الإنتاج، في أضعف الإيمان، بعدم عرقلته. ولو تمت مكافأة عصابات الابتزاز ومعاقبة المنتجين، فقل على تونس وديمقراطيتها واقتصادها السلام.
وإذا عجزت الحكومة عن إقناع المواطنين بسياساتها، فمن واجبها أن تستقيل، وتدعو إلى
انتخابات جديدة. ففي العملية الديمقراطية، لا بد أولاً وأخيراً من التأكيد على أن قنوات اتخاذ القرار لا بد أن تتم عبر الشرعية الدستورية: البرلمان المنتخب والحكومة الشرعية المنبثقة عنه وبقية المؤسسات الدستورية من رئاسة وقضاء وغيرهما. وإذا كان من حق المنظمات السياسية والمدنية الضغط من أجل تحقيق مطالبها، فلا بد أن يكون هذا الضغط سلمياً. وإن تجاوز ذلك، فهو تعدٍّ على سلطات الدولة يستحق المساءلة. ومن المفهوم أن انتهازية بعض الأحزاب السياسية قد تدفع بها إلى استثمار الاحتقان، لتحقيق ما تريد من مكاسب سياسية من غير أبوابها، كما حدث من قبل من استغلال بعض حوادث الاغتيال الإرهابية لإسقاط حكومات تونسية. ولكن هذا مسعى خطير يرتدّ على أصحابه. وما حال ما سميت جبهة الإنقاذ في مصر عنا ببعيد، فأين هم قادتها الذين هدموا الديمقراطية على رؤوسهم ورأس الشعب المصري، بدعوى إسقاط محمد مرسي؟
في الديمقراطية، يحق لمن شاء أن يسعى لإسقاط الحكومة عبر منازلتها انتخابياً، وليس ثمّة طريق آخر. وعلى الحكومة أيضاً أن تتحمل مسؤوليتها في تنفيذ سياستها والدفاع عنها باستخدام كامل سلطة القانون ضد من يمنعها من أداء مهامها، ثم يطالبها بتحقيق المعجزات. وفي هذه اللحظات العصيبة، تحتاج تونس إلى كثير من الشجاعة والصدق مع النفس ومع الغير: على الساسة مواجهة الشارع بحقائق الوضع، ومواجهة بعضهم بعضاً بصراحة ووضوح. وبخلاف ذلك، سيصبح الجميع، ومعهم الشعب، من النادمين. وفي ظل الخراب العربي المخيّم، لا نحتاج إلى سقوط آخر منارة أمل لدينا.
822FB209-C508-489D-879A-A08F3BBC562D
822FB209-C508-489D-879A-A08F3BBC562D
عبد الوهاب الأفندي

أكاديمي سوداني، أستاذ العلوم السياسية في معهد الدوحة للدراسات العليا. عمل بتدريس العلوم السياسية في بريطانيا منذ 1997، وكان قد عمل في الصحافة والدبلوماسية والطيران في السودان وبريطانيا. أحدث مؤلفاته "كوابيس الإبادة.. سرديات الخوف ومنطق العنف الشامل"

عبد الوهاب الأفندي