"معك" سوزان طه حسين

23 نوفمبر 2014
+ الخط -
قمتُ بترجمة هذا النص من الفرنسية إلى العربية قبل أكثر من ست وثلاثين سنة ونشرته للمرة الأولى دار المعارف عام 1979، ثم نشره المركز القومي للترجمة في القاهرة عام 2009، مع مقدمة كتبتها له توضح ظروف تأليفه وترجمته. لكن الطبعة العربية الجديدة، التي ستظهر على الملأ ستختلف عن الطبعات السابقة جميعها. وقد تضمنت هذه الطبعة كل الأبحاث، التي قام بها ناشراها الفرنسيان، زينا ويجان وبرونو رونفار، وتمثلت في هوامش وشروحات وتعريفات بأسماء المعالم، وخصوصاً الأعلام الذين ورد ذكرهم في الكتاب، فضلاً عن مقدمة وتذييل شديدي الأهمية بالنسبة إلى القارئ الفرنسي، بل وإلى القارئ العربي أيضاً. ترجمت ذلك كله كي تأتي الطبعة العربية جديدة بكل معنى الكلمة بما تضيفه من معلومات تسهم في تقدير النص الأصلي حق قدره.

لم تكن سوزان بريسّو، التي حملت منذ اقترانها به، اسم طه حسين، تتطلع إلى أن تكون كاتبة ولم تحاول. فقد اقتصر نشاطها الكتابي على ما كانت تكتبه لزوجها من رسائل، كلما غابت عنه، وكان يمكن لنا ألا نسمع عنها أكثر مما سمعه معاصرو زوجها الأقربون لولا أنها حزمت أمرها، واستجابت لنداء داخلي، ولاقتراح من جاك بيرك، الذي كان صديقهما المشترك كي تحكي في هذه الرسالة رحلتهما معا، على غرار الرحلة السنوية التي كانا يقومان بها كل عام من الإسكندرية حتى جبال الألب في إيطاليا ثم إلى فرنسا. ولكي تسرد كل ما لا يمكن لمن أحبوا طه حسين أو كرهوه، من قدّروه أو من حاولوا النيل منه، أن يعرفوا طه حسين الزوج، والعاشق، والأب الحنون، والإنسان الذي اتحد في شخصه السلوك والعقيدة ودفع ثمن هذا الاتحاد كلما رفض النفاق أو الكذب أو الرقص على الحبال.

هكذا كتبت سوزان طه حسين كتاب "معك"، تحاول، وقد غاب عنها الرجل، الذي ملأ عليها حياتها، أن تستحضره في الغياب. كتابٌ لا هو بالرواية على امتلاكه كثيراً من عناصرها، ولا هو قصة طويلة على وجود شخصية رئيسية أساسية فيها، ولا هو رسالة حبٍّ حميمة على ما ينطوي عليه من فصول ومقاطع يسود فيها ضمير المخاطب: منها إليه أو منه إليها، ولا هو تأريخ على ما فيه من سرد لحوادث كبرى عرفتها مصر خلال حياة طه حسين، ولا هو أخيراً يوميّات على ما تضمنه من ضبط إيقاع الكتاب تارة بناء على تواريخ معينة، وتارة بناء على مواقع محددة. لكنْ، فيه منها جميعاً. لسوف تتيح لنا في هذا الكتاب الوحيد الذي وضعته أن نقرأ فيه لا مجرد حكاية رحلة علاقة دامت نحو ثمانية وخمسين عاماً قامت على حبٍّ لا يلغى أحد طرفيه لحساب الآخر حين يحترم فيه فرديته وخصوصيته واستقلاله واختلافه في مجتمع، كانت لا تزال المرأة تناضل فيه من أجل الاعتراف على الأقل في حقها برفع الحجاب، وأن نرى بعينيها وبأمّ أعيننا كيف تمكن إنسان، حرمه فقدانُ البصر من أن يصير أكثر بصيرة من المبصرين، من دون أن يتوقف عن قول ما يراه الحق في أوضاع بلده السياسية والإنسانية والاجتماعية والثقافية والتربوية، ومستمرا في الشك وفي الحيرة وفي إعادة النظر بكل ما يمكن أن يساعده على تصويب خطواته، وكيف أن عمله الدائب في البحث لم يحل بينه وبين أن يكون أباً يقوم بمداعبة أولاده ويسهر على تربيتهم.

سنرى فضلاً عن ذلك في هذا الكتاب مشاهد شديدة الأهمية من تاريخ مصر السياسي والاجتماعي في الأرباع الثلاثة الأولى من القرن الماضي. وسنلتقي خلال ذلك كله ببعض شخصيات هذا التاريخ، ممن كانوا يصنعون الأحداث آنئذ لكننا سنكون معهم خلف الحجب أو الأقنعة، التي تفرضها السياسة أو المناصب. وسنعيش، خصوصاً، لحظات المحنة التي واجهها طه حسين إثر نشر كتابه "في الشعر الجاهلي"، الذي أملاه خلال الأشهر الثلاثة الأولى من عام 1926، والتي تمثلت في جرّه إلى المحكمة بعد مصادرة الكتاب، واتهامه بالكفر والإلحاد وما كان يراه من "الأحكام البليدة" و"الحقد الحاسد" و"الرياء" مما عكسته الحملات الصحافية والشتائم والتهديد بالموت وخذلان الأصدقاء، ومع ذلك "احتمل كل شيء بصلابة ورأس مرفوع، وعندما أعلن ردّ الدعوى بعد ذلك بعدة شهور، لم يكن قد تراجع خطوة واحدة".

* بدر الدين عرودكي، كاتب ومترجم - فرنسا
المساهمون