"مش بطال"...

27 نوفمبر 2017
+ الخط -
كان إبراهيم المويلحي من طلاب الشيخ محمد عبده، والإنسان يحب المدح لا سيما إذا قدم شيئًا يستحق المدح. في بداياته كلما كتب مقالًا ونال استحسان أساتذته وأقرانه، طمع المويلحي لسماع كلمة ثناء أو تشجيع من شيخه محمد عبده، وفي كل مرة كان يسمع كلمةً واحدة: "مش بطال". هذه الجملة التي تقف على استحياء بين الإطراء واللامبالاة، وتشبه إلى حدٍ بعيد المدح بما يشبه الذم في الشعر العربي، لم تبعث في نفس المويلحي شغفًا وإنما أشعلت في صدره حنقًا.

ذات صباح انفرد المويلحي بأحد أصدقائه وبثه شجونه من هذا الرد الباهت البارد "مش بطال" فقال: أتعلم يا صديقي! لو أن الله تعالى جمع الملائكة والأنبياء والصالحين، وحشر إبليس والعصاة الجاحدين يوم القيامة، وقد اقتربت الشمس من الرؤوس وتطايرت الصحف.. ثم اقتربتُ ساعتها من محمد عبده هامسًا: ما رأيك في هذا المشهد المهيب؟ لأجاب: "مش بطال!".


بعيدًا عن المبالغة التي ساقها المويلحي والتي كشفت ما يعتمل في صدره من التأثر السلبي بقول شيخه؛ فإنك إن وضعت نفسك مكان المويلحي وما يريد أن يسمعه من مدح؛ فإنك ستجد نفسك توافقه في فحوى ما رمى إليه. قد يدخل الرجل بيته فيدمي قلوبهم بكلمة! هل أنت من هذه الفئة؟ الذين يتحرجون من إظهار مشاعرهم، ويتفنون في رسم تعابير جامدة ظنًا منهم أن الابتسامة لا تتفق مع المكانة والمنصب؛ فهؤلاء يتقمصون هذا التوجه حتى يصبح جزءًا من شخصياتهم وربما يدمر حياتهم الخاصة.

المدح أحد الحوافز الإيجابية التي تدفع الناس لتقديم ما هو أفضل، في حين أن انتقاص مجهود الآخرين يدفعهم إلى الاكتئاب، ولا يحمل أي تأثير إيجابي في نفوس السواد الأعظم من الناس. يمكنك إرشادهم لما وقعوا فيه من هفوات بأسلوبٍ طيب وبعدما تمتدح المجهود الذي بذلوه؛ فهذا أدعى أن يتقبلوا ما تراه من نصح، وسينظرون له نظرة حبٍ واهتمام ويعتنون بتنفيذه؛ لأنه يساعدهم على التطور الذي يبحثون عنه. النقد فن لا يحسنه كل شخص، وإنما يتقنه البعض ممن يكسبون القلوب قبل المواقف، ويستعملون مبضع الجراح وحكمة الفيلسوف؛ فيستأصلون الجرح ويطببون الروح.

الإشكالية في النقد أن البعض يستحضر ملامح أبي لهب؛ فيرغي ويزبد ويُبْرِقُ ويرعد ويتوهم أن ذلك كبد النقد وأصله. إن باستطاعتك أن تنتقد زوجتك أو أبناءك أو مرؤوسيك في العمل بكلماتٍ طيبة دون الحاجة للتهديد والوعيد، جرِّب أن تمتدح شيئًا ما إيجابيًا فيهم قبل أن تنتقدهم، ولاحظ الفرق في تصرفاتهم بعد ذلك. ستجد أنهم يستمعون لك بعناية وإخلاص عما لو استفتحت كلامك بالنقد الجارح، أو التأفف من الهفوات والأخطاء التي ارتكبوها، واستعمل السلاح الذي لا يخيب في علاج الهفوات والأخطاء؛ إنه الكلمة اللينة.

استعمل كلمات تعبر عن مشاعرك بصدق، ولا تبخل على من حولك بإظهار امتنانك لما بذلوه، ثم انتقد ما بدر منهم من هفوات بكلماتٍ يفوح منها أريج الإخلاص، وبطريقة يدركون بها أنك لا تنتقدهم لمجرد النقد ولكن لأنك تريد لهم المنزلة الأرقى والنجاح الأوسع. يهرب الناس من التعامل مع الأشخاص الذين يقللون من أهميتهم، وقد يضمرون لهم بغضًا دفينًا على المدى البعيد، أو يسلقونهم بألسنةٍ حداد كما سخر المويلحي من صاحب مقولة "مش بطال".

لا حكيم إلا ذو تجربة، والسعيد من اتعظ بغيره واتقى ما وقع فيه من سبقه؛ فكن لطيفًا على قلوب الناس، امتدح بصدق وانتقد بأدب وحكمة، ولا تقل لأحدهم "مش بطال" إذا كان بوسعك قول: أحسنت.
دلالات