في أوائل القرن العشرين، توغّل البريطاني بيرسي فاوست في أعماق أدغال الأمازون بحثًا عن مدينة الذهب والذرة التي أشيع أنها توجد في قلب الأدغال. ولعل تصوير المخرج والمؤلف جيمس غراي لمغامر أنهكه البحث عن المدينة المفقودة يحفّز على مشاهدة فيلم "مدينة Z المفقودة".
وضع غاري شخصية فاوست في سياق عصر الاستكشافات والإمبراطورية البريطانية، ملقيًا الضوء على نظرة الرجل الغربي آنذاك لسكان غابات الأمازون الذين وصفهم بأنهم "بدائيون"، ولم يفته أن يبرز عجرفة وصلف مواطنيه. ففي بداية الفيلم، رفض فاوست، وكان رائدًا في الجيش، دعوة على العشاء، بعدما وصفه أحد أعضاء القيادة العليا بأنه: "لم يكن محظوظًا في اختياره لأجداده".
ومن السهل أن نسخر الآن من هذه الافتراضات التي تبدو متغطرسة، ولكن أكثر ما يميّز إخراج غراي وتجسيد تشارلي لدور فاوست، أنهما ينقلان المُشاهدين إلى الماضي وكأنهم يعيشونه، لينفذوا إلى صميم رحلة فاوست الحقيقية، فقد تحوّل من ضحية لعصره إلى بطل في صدارة المشهد الاجتماعي آنذاك.
تحدّد المشاهد الأولى للفيلم إطار شخصية فاوست. يلاحظ الوتيرة البطيئة لأحداث الفيلم، وأن العمل على اختلاف أحداثه لا يعمد إلى استخدام عنصر التشويق ليجبر المشاهد على المتابعة، وهو الأمر نفسه الذي كان حاضرًا في عمله السابق المهاجر "ذا إيميغرانت".
وبتكليف من الجمعية الجغرافية الملكية، يقوم فاوست بالذهاب إلى بوليفيا لترسيم الحدود مع البرازيل. لم يتردّد في قبول التكليف، على خطورته، طمعًا في استرداد شرف عائلته، بعد أن عُرِف عن أبيه أنه مقامر ومدمن كحول. ترك فاوست في تلك اللحظات زوجته نينا، التي لم تكن قد وضعت حملها بعد، إلا أنها تفهّمت أنه سيعرّض نفسه للمخاطر لمصلحة العائلة على المدى الطويل.
رحلة الاكتشاف
في الرحلة الاستكشافية الأولى سنة 1906، يتمكّن فاوست من تحاشي السهام التي أطلقت عليه وفريقه من على ضفاف النهر. استطاع بعد ذلك أن يهدئ مخاوف الهنود المهاجمين ليتوقّفوا عن مهاجمتهم، بعد أن غنّى لهم مع أصدقائه البريطانيين إحدى الأغاني الوطنية البريطانية "جنود الملكة". وفي خضم ذلك سمع أخبارا عن المدينة المفقودة، ووجد أجزاء من أوان فخارية قديمة تدلّ على وجود حضارة متقدّمة.
رغم أن فكرة البحث عن المدينة التي سماها فاوست "زد" قد استحوذت على عقله، إلا أنها لم تدفعه إلى الجنون ولم يصب بهوس العظمة، فلم يتوقّف عن التفكير في زوجته وأطفاله، وهو في أدغال الأمازون. وعندما عاد فاوست وألقى كلمته أمام الجمعية الجغرافية الملكية، حاملًا بيده أجزاء الأواني الخزفية القديمة، وأشار في كلمته إلى أن الحضارة التي اكتشفها في أميركا الجنوبية ربّما تكون أقدم من الحضارة البريطانية، سخر منه الحضور. فاتهم زملاءه الذين لم يكترثوا له بأنهم "منساقون وراء تعصب الكنيسة".
بمساعدة المصوّر السينمائي داريوس خوندي، أضفى غراي على كل مشهد ما يناسبه من مؤثّرات، فأظهر المدينة المفقودة هادئة بتخفيف حدة اللون والضوء، أما المشاهد التي صُوّرت في أوروبا فقد غشّاها ضباب بنّي، وفي الأدغال خفّف من درجة اللون الأخضر. ولا تجد في الفيلم مشاهد تتزاحم فيها الألوان، حتى المشاهد الخاصة ببوليفيا، التي صُوّرت في كولومبيا، نقل غراي المُشاهد إلى قلب الأحداث حتى يكاد يهمّ بإبعاد الحشرات.
في عام 1925، انطلق فاوست في بحث جديد عن المدينة "زد"، وهذه المرة بصحبة ابنه الأكبر، جاك، الذي لعب دوره توم هولاند، ببراءة ممزوجة بالإصرار. ويقول جاك لأبيه: "سيأتي الأميركيون إلى أراضي الهنود بالأسلحة، وعلينا أن ندعو الله ألا يبيدوهم". وهذه الكلمات، مثل بعض ملاحظات نينا التي تنادي بحقوق المرأة قبل ظهور حركة النهضة النسائية، من العبارات السطحية المباشرة التي كانت إحدى سلبيات الحوار.
في القصّة الحقيقية، اختفى فاوست وجاك أثناء رحلتهما، وظلّ مصيرهما مجهولًا. ولكن دافيد غران، مؤلف القصّة الأكثر مبيعًا، التي استوحي منها الفيلم، اقترح حلّا لاختفائهما الغامض وللمدينة المفقودة "زد". أما غراي، فلم يضع لفيلمه نهاية واضحة، بل ترك المشهد الأخير يتأرجح بين كونه حقيقة أو صورة نسجتها زوجة فاوست من خيالها.