على خشبة مليئة بالميكروفونات والشاشات، يظهر "الديكتاتور السابق" ببدلة عسكرية، ولكنه بلا رأس (حيلة أزياء). يقول، وهو يحمل رأسه بين يديه: "ليس لدي ما أخفيه". بين الميكروفونات، سيتنقّل طوال المشهد الأول؛ إنه يبحث دائماً عن الميكروفون الذي يعمل، والذي سرعان ما يخذله وهو يتحدّث، ما يجبره على البحث عن وسيط جديد للتواصل مع شعبه.
بعد مجموعة عروض في فرنسا وبلجيكا، قُدّمت مؤخراً في سوسة وتونس العاصمة مسرحية "ما لم يقله الديكتاتور" لـ مريم بوسالمي، التي أدى فيها الأسعد الجموسي دور "الديكتاتور السابق".
في خطابه الجديد، وهو في المنفى بعد الإطاحة به، يفضح "الرئيس" عمليات التلاعب بالرأي العام، فهو أعلم الناس بهذه العمليات فقد كان محرّك خيوطها. بمرور الوقت، تتغيّر الإكسسوارات التي يستعملها "الديكتاتور السابق"؛ مرة يلبس واقية صدر، وأخرى أصابع أخطبوط، وغالباً ما تكون الكاميرا والميكروفونات بالقرب منه، وكأنها جزء من جسده. الكاميرا بالنسبة له مرآة، مثل مرآة ساحرة قصة بيضاء الثلج؛ إذ يطلب منها أن تقول له إنه الأجمل والأقوى.
يسترسل الديكتاتور في الحديث. يقول لشعبه "أخطأتم العدوّ.. وكعادتكم بدأتم في صناعة ديكتاتور جديد". وأحياناً يغضب فيقول: "لا أقبل أن أكون نداً لشعبي" أو يوحي بالفكرة السلطوية الشهيرة: "شعبي لا يستحقني"، أو يتحدث مطوّلاً حول مجتمع القرود. يتذكّر ما قام به، ويبرّر: "أنا ديكتاتور لعدم وجود مقاومة". طرحٌ يؤدي إلى حلقة مفرغة: هل الذنب على المتلاعِب أم بالمتلاعَب به؟
هنا، ينفصل الممثل عن شخصية "الديكتاتور السابق". تضاء الصالة بالكامل، يتحدّث الجمّوسي إلى الجمهور: "لا تصدّقوا أن الديكتاتور يقول الصدق". ينقطع الميكروفون ويضرب ناقوس، ثم تظهر شاشة في الخلفية مكتوب عليها "الممثل لم يحترم النص". يصرّ الممثل على الوقوف ضد الكذب الذي يقوله الديكتاتور، رافضاً أن يتحوّل مثل قارئ أخبار في تلفزيون رسمي، ثم يحتج ضد ديكتاتورية المؤلف، قبل أن ينسحب من الخشبة.
هنا، تتدخّل بوسالمي صوتياً من الكابينة، تتحدّث من جهتها عن ديكتاتوريات ممكنة أخرى؛ ديكتاتورية الممثل الذي يوقف العرض أو ديكتاتورية التصفيق وغيرها. عودة إلى الحلقات المفرغة.
تقرّب كل هذه الألعاب المشاهد من تشعّب فكرة "التلاعب/ التحكّم" وإفلاتها من الحصر. "الديكتاتور السابق" هو الأعلم بمعادلاتها، حتى إنه يصل إلى القول "أطالب بفرصة ثانية". في آخر مشهد، نرى الديكتاتور يقرأ في كتاب عنوانه "السياسة". إنه يشعر أنه قد تعلّم الكثير مما حصل، والآن يمكنه أن يحكم من جديد. يطلب بدلته العسكرية، "يطرشق" أصابعه كما تعوّد وهو يأمر بشيء. لا أحد يجيب طلبه.
تواصل بوسالمي وضع نصوص مسرحية مشحونة بالتفكير في السياسي، بعد "ذاكرة في التقاعد" و"خطيئة النجاح" و"صابرة". مع "ما لم يقله الديكتاتور" تتأكد قوة المشاكسة الفكرية في أعمالها، وقدرتها على حسن توظيف العناصر البصرية واللغوية لخدمة أفكارها، وهي التي درست العلوم السياسية في الجامعة قبل أن تحترف الكتابة المسرحية.
كان من المتوقع أن تكون العروض التونسية بالعربية، باعتبار أن بوسالمي قد غيّرت الممثل الذي بدأت به عروض العمل في 2015، الفرنسي ستيف كاربي. لم تكن الفرنسية حاجزاً على مستوى إيصال أفكار العمل للحاضرين، لكننا نشعر بوجود هذا الحاجز بين لغة العمل وموضوعه حين نضعه ضمن إحداثياته التونسية التي لها خصائص لا تقولها إلا لغة الشعب والسلطة هنا.
ملاحظة أخرى تتعلق بحيثيات العروض في تونس، إذ أنها لم تنظم للجمهور العريض بل في إطار عروض بالدعوات، وهو ما يذكّرنا بمسرحية "صابرة" في 2012 التي كان منظّموها يخشون أن يقتحمها المتطرّفون. يبدو هذ الخطر أقل حضوراً اليوم في تونس، لكن ربما يحتاج كل حديث عن لعبة التحكّم في العقول إلى احتياطات ومحاذير، وشيء من النخبوية، أو هكذا توحي مريم بوسالمي.
اقرأ أيضاً: "بيك نعيش": تونس عبر مخيّلة ساخرة