"ماذر"... كيف تقتل الرمزية الفجة مشروع فيلم جيد

27 نوفمبر 2017
دارين أرنوفسكي (Getty)
+ الخط -
منذ بداية مسيرته في أواخر التسعينيات اعتبر المخرج، دارين أرنوفسكي، واحداً من أفضل أبناء جيله، ومن أكثر مخرجي هوليوود موهبة وتجديداً، بأفلام مثل Requiem for a Dream أو The Wrestler. واعتبر كثيرون أن معالجته المتواضعة لقصة النبي نوح في العمل الذي يحمل نفس الاسم عام 2014 هي مجرد كَبوة عارضة، سرعان ما سيتعافى منها في فيلمه الجديد "ماذر" (Mother، الأم) الذي يجمع فيه جينيفر لورانس وخافيير بارديم في البطولة.

ولكن مع عرض الفيلم ظهر أن مشكلة سينما أرنوفسكي في تلك اللحظة أكبر كثيراً من مجرد فيلم ضعيف أو أقل من المتوقع، ولكن في الطريقة التي قرّر أن يتعامل بها مع فنه كوسيلة مباشرة للتعبير عن قضية بيئية.

الخط الدرامي الرئيسي للأحداث مستلهم من الفيلم الكلاسيكي Rosemary's Baby الذي أخرجه رومان بولانسكي عام 1968. ولكن هذا التشابه طفيف جداً، ويتعلق فقط بعلاقة زوجين في بيتهما الحديث باثنين من الغرباء الذين يزورنهم، وتبدأ مجموعة من الأحداث الغريبة في الوقوع، وتنتهي بحمل الزوجة.

ولكن ما يحدث أن أرنوفسكي يتخذ من تلك القصة الغامضة المنتمية إلى سينما الرعب مدخلاً لصنع رؤيته الخاصة لقصة الخَلق، وكيف يدمّر البشر "الطبيعة الأم". الشخصيات في الفيلم مُجهلة في أسمائها، تحمل لورانس اسم "الأم"، وبارديم اسم "هو". يبدأ الفيلم به، وهو يَضع جَوهرة ثمينة داخل بيت، ونرى هذا المكان، وهو يُبنى ويشيّد في ثوانٍ قليلة، نهاية باستيقاظ "الأم" من نومها. من تلك النقطة (وهي افتتاحية لا تتجاوز الدقيقة) يظهر أن الدراما والشخصيات ومنطقية الأحداث ليست ما يشغل أرنوفسكي تماماً، ولكنها مُجرّد واجهة لحكاية رمزية عن الخليقة، حيث الزوج شاعِر عاجز عن الكتابة والزوجة/الطبيعة تحاول تعمير البيت وتحويله إلى جنة (كما تقول في إحدى الجمل)، ومع حضور اثنين من الغرباء (يحملان اسم الرجل والمرأة) تتضح رمزيّة الفيلم أكثر؛ حيث آدم وحواء القادمان إلى المكان يعبثان به ويأتي معهما ابناهما (قابيل وهابيل) ويتعاركان حتى يَقتل أحدهما الآخر، ويبقيان بقعة من الدماء تعجز الأم عن محوها مهما حاولت.


حتى تلك اللحظة من الأحداث، والتي تمثّل النصف الأول منه، كان من المحتمل قبول الفيلم باعتباره دراما غامضة تسير على خط رفيع بين الدراما والرمز. ولكن ما يحدث في النصف الثاني أن أرنوفسكي يتجاوز كل شيء له علاقة بالدراما، ويصبح فيلمه مجرد رمزية خطابية ساذجة عن الخلق والكوكب، وكيف يدمره البشر تحت أنظار "الإله"؛ ليمر على طوفان النبي "نوح" (ويرمز إليه بماسورة مياه تغمر المنزل وتطرد الزوار/ البشر)، وحادث حمل الزوجة (كرمز لميلاد المسيح كمخلص للبشرية) بالتزامن مع كتابة الشاعر نصه (الكتب المقدسة). وتحول المنزل إلى واجهة للزوار والمريدين المغرمين بالشاعر ويحبونه ويفسرون نصوصه بطرقٍ مختلفة (البشر والأديان)، فيصبح هناك آلاف الزوار داخل المنزل ويدمرونه بقصد أو بدون قصد.

وفي مشهد طويل جداً تمر الأم/ الطبيعة بين الغرف لترى الخراب الذي خلّفوه من قتل وتدمير وفقر، ومع ولادة ابنها يأخذه الأب ليعطيه إلى الزوار كأضحية، فيقتلونه (كما قُتِلَ المسيح)، وينتهي الأمر بغضب الطبيعة التي تحرق المنزل، ولا يبقى حياً غير الشاعر/ الإله الذي يخبرها أنه سيأخذها للبداية، وينتهي الفيلم بنفس المشهد الذي بدأ به.



لا يوجد أي منطق أو ترابط درامي في الأحداث، لأن الرمز المباشر الساذج جداً يطغى على كل شيء. والغريب أن الفيلم ينقسم ما بين نصف أول يحاول الحياد وخلق دراما غامضة بين أربع شخصيات داخل منزل ونصف ثانٍ لا يخجل من تجاوز كل المنطق من أجل "الرسالة"! أما الأغرب، فهو أن المخرج نفسه، في حواراته، قام بتفسير الفيلم (الواضح جداً أساساً)، والكشف عما يمثله أبطاله، وهو تصرّف ينم عن أن الهدف من "أم" ليس جعل العمل قابلاً للتأويل، كما من المفترض أن تكون السينما أو الفن عموماً.



دلالات
المساهمون