"لِوجه ما لا يلزم": ما آلت إليه الحقيقة

04 ديسمبر 2018
نوتشيو أوردينه (تصوير: بيير مورال)
+ الخط -

ترتيبُ القيم في سُلّم التفاضل وإعادة نظمها، وفق درجات الحق والخير والجمال، ذاك هو سؤال الفلسفة الأبدي، وفيه تكمن فذاذة الفكر حين يعترض على سطوة المال وجنون السلطة، وهذا هو مُؤدّى كتاب "L’utilità del l’inutile" للفيلسوف الإيطالي نوتشيو أوردينه (1958). وقد تَرجمت "دار الجديد" اللبنانية "مقالته" هذه إلى اللغة العربية بعنوان "لِوجه ما لا يلزم"، وأصدرته، الشهر الماضي، في طبعة أنيقة، يُزيِّنها تحريكٌ كاملٌ للنص.

أراد أردينه أن يكون خطابُه "بياناً" (مانفستو)، وشأن البيانات، في التراث الثوري، أن تُسائل المسلّمات وتحتجّ على انتشار الظنون والأوهام (doxa)، حتى يظلَّ "حبُّ الحكمة" من المدينة قلبَها النابض، وإن طغت على أفرادها لهفةُ التبادل الربحي، وهيمنت رغبتهم في تحقيق المآرب الآنية العاجلة.

وأمّا سؤال النص فعودٌ رصينٌ إلى ثنائيات ضدّية كالحق والنفع، اللزوم والنفول، الحاجة والمتعة، تقصّياً لما تقوم عليه الحضارة من الدواعي، وتذكيراً لأهل العصر، وهم اللاهثون وراء الربح، أنّ الحق ليس دائماً في جانب القوة التي تستأثر بمقاليد النفوذ، لا من جهة الثروة التي تحدّد مدارات الصدق وترسم حدوده، بل لعلّه في الشغف بالمعرفة الحرّة، ضمن حقول العلوم الصحيحة والأدبيات والإنسانيات، وكلها تُجلي أنَّ النفع لا يتّصل بالمادة، بل بالروح.

وفي بيانه، وهو إلى التأسيس النظري لفكرَتيْ اللزوم والنفول أقرب، ينسج الكاتب استدلالاً متّسقاً، من دقيق العلم سَداه، ولُحمَتُه إحالاتٌ عديدة ثرَّة، تكاد تشمل أدوار الفكر الإنساني قاطبة، صاغه حول فكرة بسيطة مفادها أنَّ ما ظاهرهُ نافل، لا جدوى منه ولا غاية يَجري إليها، قد يكون السبب الرئيس في تطوُّر العلوم وازدهار الخِبرات العملية وتقنيتها. فربّ اكتشافٍ عرضيٍّ وَلَّده فضل رغبةٍ في المعرفة، وافى الإنسانية حين غرّة فأفادت منه أوسع النتائج الملموسة! وكم كانت أبحاث النَّهَم الذاتي في المعرفة وراء تطوير الإنسانية لاختراعات ذات مردود مادي.

من ذلك استشهاده بمقولةٍ للاهوتي والفيلسوف الإيطالي، جوردانو برونو (1548 - 1600)، الذي أدانته محاكم التفتيش بتهمة الهرطقة وحكمت عليه بالقتل حرقاً: "ما إن وضعَت مدارس الفلسفة الكسب وجنيَ المال نصبَ عيونها، حتّى أخذت الحكمةُ والعدالةُ تهجران هذا العالم... وممّا يكونُ من جرّاء ذلك أن يضيقَ صدر الدين، وأن تضيق أنفاسُ الفلسفة، وأن يعمّ الاضطرابُ الدول والممالك مستغرقاً ناسها أجمعين، ولا مُميّزاً بين حاكمٍ ومحكومٍ وحكيم".

ومن كتاب "الديمقراطية في أميركا" لـ ألكسيس دو توكفيل (1805 - 1859)، يقتبس: "إنّهم يحبّون الكتب سهلة الاقتناء، اليسيرة على القراءة التي لا يتطلّبُ الوقوف على معانيها تبحّراً في البحثِ أو استغراقاً في التأمّل. ولا عجبَ ممّن يذهب في التفكير هذا المذهب أن يتراءى له أنّ أعظم فُتُوحاتِ الذكاء البشريّ هي تلكَ الفتوحات التي تُقصرُ طريق الوصول إلى الثروة، وتلك الآلات التي تختصرُ ساعات العمل، وتلك الأدوات التي تخفّض نفقات الإنتاج، وتلك المكتشفات التي تُدني المتع وتُكثرها".

ومن جانبٍ ثانٍ، يعقد الفيلسوف الإيطالي، وهو أستاذ خبيرٌ بأجواء الجامعات الأوروبية والأميركية، عارفٌ بقيودها وما طاولها أخيراً من عميق التحوّلات بعد أن غدا الربحُ شغلَها الشاغل، يعقد فصلاً كاملاً لانتقاد ما آلت إليه الحقيقة، وصنوُها المعرفة، في معاقلها الأصلية بعد أن تسلّمها خُبراء التصرُّف المالي والإدارة الساعون إلى تحقيق أكبر الأرباح في أقصر الأوقات. فكان هذا الفصل الممتع من جريء النقد، ينبعث من داخل المنظومة الجامعية نفسها، لِبؤس هذه المؤسّسات، بعد أن ضحَّت برسالتها الإبداعية لصالح الأرقام.

وفي سبيل هذا الاستدلال، وهو شديد الاتساق والسلاسة، يستعرض صاحب "عتبة الظل" (2003) مقالات الفلسفة من كلّ العصور والأمصار، باحثاً في طيّاتها عن نظراتها إلى مبادئ النفع واللاجدوى، النفول واللزوم، ثم يقدّمها في شكل استشهادات مفهومية وأخرى قَصصية، مغذّياً إياها بسلسلة من وقائع العلوم والاكتشافات المُبينة عن نسبية هذيْن المفهومين، بل واقترانهما: فما لا يلزم قد يؤدّي إلى تطوير النافع، وهيمنة النافع تدفع حتماً إلى تعميق أبحاث غير ربحية.

وفي مزاوجة أصيلة بين فكره الذاتي ومراجِعِه، طعَّم أردينه "بيانه" بفصل كاملٍ، أحياه من خبايا الذاكرة، واستعاره من المفكّر أبراهام فلكسنر (1866 - 1959)، "وهو مُربٍّ أميركي كان له دورٌ حاسمٌ في إصلاح القطاع التربوي/ التعليمي"، كما ورد في هامشٍ عنه. هذه العارية مقالةٌ عميقة تتألّف من أربع فقراتٍ، أكد خلالها الكاتب أنّ الأبحاث العلمية، التي هي في ظاهرها إضاعة للوقت وعبث من نزوات الشباب، كانت وراء أكثر الاكتشافات العلمية تأثيراً في تاريخ البشرية.

وأمّا فعل الترجمة، الذي أتاح لنا هذا النص، فقد أراد أن يكون، هو الآخر، غير نفعيٍّ، لا تحرّكه دعاية الربح ولا تُعجِّله مصلحة، وإنما جمالية تجذِّر النص الفلسفي في مغترس الأدَب، سانحةٌ تكشفها لغته جزلةٌ متينة، جعلت من الخواطر الإيطالية مضمَّخة بعطرٍ عربي عريق، يجري البيان في نَسغه، وتمدُّه مناهل النثر الفلسفي.

كما تُعد هذه الترجمة، في صيغتها الأدبية العالية هذه، إسهاماً حقيقياً في إحياء الخطاب الفلسفي العربي، وكان فيه الأدب يمتزج بالفكر، وفي تطعيمه بنصوص مجهولة، ولاسيما تلك التي اختطّها فلاسفة مغمورون، وهُم، وإن عاشوا بين ظهرانينا، فأعمالهم غير متاحة لعموم القرّاء.

وفي الحق، يتجاوز هذا الكتاب الذي بين أيدينا نطاقَ الترجمة الحرفية من بعيد، فقد ضمّنه أهل "دار الجديد"، لقمان سليم ورشا الأمير، سيراً مقتضبةً لكل الأعلام والفلاسفة الذين ورد في المتن ذِكرهم، مساعدةً للقارئ على تفهُّم السياقات التاريخية والفكرية التي ظهرت فيها نصوصُهم، كما استُهلّ الكتاب بمقدمة تعين على استجلاء مراميه، فضلاً عن إضافة عناوينَ، هي كالعتبات تفضي للنص.

زد إلى ذلك، النفَس العربي الأصيل الذي يكاد يسري، كالروح الخفّاقة، في كل جملة منه. وكل ذلك جعل من الكتاب أقرب إلى "الخلاصة" أو "السانحة" من مُعتَّق النثر الفلسفي وتليده، لا تدري أتحليلاً دقيقاً تطالع أم جمالية أدبٍ، وما هما بالمتناقضيْن كما يسود الاعتقاد.

تمتّعنا بقراءة هذا الكتاب، كما رَجا ذلك الناشر في المقدّمة، مع أنه دفع بنا إلى سؤاليْن، كلاهما للثقافة العربية محرجٌ: غياب الاستشهاد بالتراث الفلسفي العربي- الإسلامي، واستعصاء جلّ المراجع والأسماء المذكورة على القارئ العربي. فمن جهة أولى، لم يستشهد الكاتب بأي من الفلاسفة العرب، رغم أنهم تناولوا هذه القضية؛ مثل الفارابي وإخوان الصفا والغزالي... في تمييزهم بين الحكمة النظرية والحكمة العمليّة. وليست ترجمات كتبهم بالمعوزة، ولكن سوء تقديمها ونشرها بين فئات المثقّفين الأجانب هو الذي ربما حال دون الاستعانة بها. ومن جهة ثانية، يعسر على القارئ العربي بثقافته العادية، أن يلج إلى معظم الإحالات الفلسفية، لذلك أحسنت "دار الجديد" بالتعريف بها، وإن بإيجازٍ يَفي بالغرض، ولا يخلُّ.

هذا كتابٌ/ صيحةٌ تنبعث من ذاكرة الفلسفة، في صفائها الأولي، حين كانت طِلاباً للحق والخير والجمال، خطاباً يحث على الفضائل في عالَم يَلهث وراء الملاذ الطارئة ومَنافع العاجلة، فيه كلامٌ يوصي بالتزام الشغف بالمعرفة من دون توقُّع الجدوى. ويقيننا أنَّ هذا الأثر، في تتبُّعه لمظان النفول والضرورة، يحثُّ العرب، قبل غيرهم، على العناية بأعجل المهام وأولاها: البحث العلمي والمتعة الأدبية.

المساهمون