"لبّيك يا حسين" لاستعادة الرمادي

29 مايو 2015

عراقيون مقاتلون في الحشد الشعبي (Getty)

+ الخط -
لا تبدي مليشيات "الحشد الشعبي" الشيعية العراقية التابعة لإيران كثير اكتراث بالحساسيات الطائفية في العراق، بل إنها، أصلاً، تتغذى وتنمو بالخطاب الطائفي البغيض، والذي يقوم على تمزيق العراق، أكثر ممّا هو ممزق. ومن ثمّ، لا ينبغي أن يعجب أحد من إطلاق تلك المليشيات، ومن ورائها حكومة حيدر العبادي المرتهنة لها، تسمية "لبيك يا حسين" على العملية العسكرية لاستعادة مدينة الرمادي في محافظة الأنبار السنّية، والتي احتلها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، قبل أكثر من أسبوع، بعد انسحاب قوات الجيش العراقي منها بطريقة مريبة. 
أبعد من ذلك، فإن تلك التسمية التي تستدعي أوهاماً وثارات تاريخية مزعومة في مقتل الإمام الحسين، رضوان الله عليه، مظلوماً، وتحميل وزر تلك الجريمة لجماهير السنَّة، لا يأتي منعزلاً عن سياق أوسع، لم تعد فيه إيران ووكلاؤها في المنطقة يوارون في خطابهم الذي ينضح طائفية وعدوانية.
وعودة إلى العراق الآن. فإطلاق مسمى "لبيك يا حسين" على حملة استعادة الرمادي من "داعش"، لا يأتي رداً، فحسب، على توعّد زعيم تنظيم الدولة، أبو بكر البغدادي، بنقل المعارك إلى بغداد ومدينة كربلاء المقدسة لدى الشيعة، فالأمر أكبر من ذلك وأعقد، حيث إنها تأتي في سياق الفرز والضخ الطائفي الذي مارسته فصائل شيعية كثيرة، بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003 وإسقاط نظام الرئيس الراحل، صدام حسين. فمنذ احتلال العراق، بالغت الفصائل الشيعية القادمة على ظهر دبابة أميركية، في الحديث عن مظلومية الشيعة، خلال فترة حكم صدام حسين، على الرغم من أن الجميع يعلم أن قمع الأخير لم يستثنِ أحداً، سنّياً كان أم شيعياً أم كردياً، غير أن هؤلاء، من أصحاب الولاء والتبعية الإيرانية، لم يكونوا ممّن التبس عليهم الأمر، أو ممن حملتهم العواطف الجياشة لحظياً، بل إنهم كانوا، وما زالوا، أصحاب مشروع لا يرى في العراق إلا "كوكباً" طائفياً، يدور في الفلك الإيراني، وبالتالي، كان المطلوب تصفية الوجود السنّي في البلد، إلى أقصى حد ممكن، وقد مورست، في سبيل ذلك، كل الوسائل الممكنة من التمييز العنصري إلى التهجير والتطهير الطائفي.
ضمن السياق السابق، كان أسلوب إعدام صدام حسين صبيحة عيد الأضحى، عام 2006، رسالة طائفية بامتياز، أوضحها الفيديو المسرّب للعملية. ومنذ احتلال العراق، تحوّل التمييز والاعتقال والاختطاف والتهجير، والقتل على الهوية والاسم ومكان الإقامة، نمطاً شائعاً في العراق. وعرف العراقيون السُّنة، خلال تلك السنوات، القتل بمناشير الكهرباء والمثاقب الآلية والموت حرقاً على أيدي "فرق الموت" التابعة لوزارة الداخلية، كما أصبح سلاح الاغتصاب ضد الرجال والنساء شائعاً في المعتقلات العراقية. ولذلك، فإن تنظيماً كـ"قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين"، والذي أنشئ، أصلاً، للتصدي للاحتلال الأميركي، اكتسب حاضنة شعبية سنّية واسعة في العراق، لا لاقتناع السنَّة بخطابه المتشدد فقهياً ومسلكياً، ولكن، لأنهم رأوا فيه ملاذاً، محتملاً، من بطش الفصائل الشيعية والحكومة المنبثقة عنها في بغداد.
أدركت إدارة جورج بوش الابن، الغارقة في أوحال العراق حينها، المعطى الأخير، ولذلك، عندما قررت زيادة عديد القوات الأميركية في ذلك البلد، عام 2007، فإنها، أيضاً، سعت إلى استرضاء العشائر السنّية العربية، وشكلت قوات مقاتلة منهم باسم "الصحوات"، ساهمت بشكل فعال في هزيمة "القاعدة"، بعد أن جرى تقليص مساحة حاضنتها الشعبية، غير أنه، ومع انسحاب إدارة باراك أوباما من العراق، أواخر عام 2011، وجد رئيس الوزراء العراقي السابق، نوري المالكي، والذي لم يكن راضياً، مطلقاً، عن إدماج السنَّة، بضغط أميركي، في العملية السياسية، وفي القوات الأمنية والعسكرية العراقية، وجد فرصته لفرض الصبغة الطائفية على "العراق الجديد"، فكان أن أعلن حل "الصحوات"، وأصدر أمراً باعتقال نائب الرئيس العراقي حينها، طارق الهاشمي، والذي كان يمثل العرب السنَّة في سياق المحاصصة الطائفية في الحكم التي جاءت بعد الاحتلال الأميركي. وعلى الرغم من كل ضغوط إدارة أوباما لدمج العرب السنَّة والأكراد في المعادلة السياسية، فإن المالكي، وأدوات إيران الأخرى في العراق، رأوا في ذلك تضييعاً لفرصة تاريخية توهموها، خصوصاً مع تراجع اهتمام إدارة أوباما بالعراق، حينئذٍ، فكان أن مارست حكومته مزيداً من التهميش والقمع بحق العرب السنَّة.
ومع استمرار ضغوط حكومة المالكي على العرب السنَّة، واستهدافهم عبر قوانين الإرهاب، كانت الأوضاع في العراق مهيأة لانفجار سنّي، وكان لا ينقص الأمر إلا صاعق تفجير. وفعلاً، ففي ذروة سنوات "الربيع العربي" عامي 2011 ـ 2012، انفجر الوضع في الأنبار أواخر عام 2012، على خلفية السياسات الطائفية لحكومة المالكي واعتقال النساء. وعبثاً، حاولت حكومة المالكي احتواء الانتفاضة السنّية، ولم تفلح كل المحاولات الأميركية معه لإدماج السنَّة العرب والأكراد، سياسياً وأمنياً، فكان أن تمددت "داعش" في أتون الغضب السنّي، واحتلت مدينة الموصل، ومساحات أخرى شاسعة في يونيو/ حزيران الماضي.
أمام فشل حكومة المالكي في التصدي لتوسع "داعش"، تصاعدت الضغوط، الأميركية والإيرانية، مترافقة مع أخرى داخلية، على المالكي للاستقالة، وجرى ذلك في أغسطس/ آب الماضي، وجيء بدلاً منه بحيدر العبادي، على أن يشكل حكومة "وحدة وطنية"، تشمل كل المكونات العراقية، بما في ذلك العرب السنَّة والأكراد، غير أنه اتضح اليوم أن إيران وأدواتها في العراق لم يكونوا أبداً في وارد اقتسام السلطة، أو القبول بعراق لكل مواطنيه، فكان أن استمر تمدد "داعش" في هشيم الغضب والاستياء السنّي، وصولاً اليوم إلى احتلال الرمادي.
وهكذا، فإن شعار "لبيك يا حسين" الذي أطلقته مليشيات "الحشد الشعبي" التي يشرف عليها الجنرال الإيراني، قاسم سليماني، ليس نشازاً ضمن سياق مخالف، بل إنه الأصل، والعبادي نفسه، أقر، الشهر الماضي، في زيارته لواشنطن، بأن تلك المليشيات ارتكبت جرائم طائفية، كما حصل عند استعادتها تكريت من سيطرة "داعش" في مارس/ آذار الماضي. ولعل في التقارير الواردة من العراق، والتي تقول إن عرباً سنَّة كثيرين يلجأون إلى تغيير أسمائهم التي يبغضها الشيعة، كعمر، فضلاً عن منع نازحي الأنبار من السنَّة من دخول بغداد والمحافظات الأخرى، ما يؤكد أن الطائفية والإقصاء هما الأصل في عراق اليوم.
باختصار، أهملت الدول العربية وتركيا معاناة السنَّة العرب في العراق طويلاً، وآن الأوان للالتفات إلى معاناتهم، والقهر الذي يعيشونه، فالولايات المتحدة لا يهمها إلا مصالحها، ومصالحها اليوم في العراق والإقليم أقرب إلى إيران. وكما أخطأ العرب في التخلي عن العراق يوماً، فكان أن انتهى الأمر بهم إلى أن يكونوا أمام إيران وجهاً لوجه، فإنهم يخطئون، اليوم، بالتخلي عن امتدادهم الطبيعي في العراق، بما يمكّنهم من التأثير فيه، وهذا سيعزز من نفوذ إيران وأدواتها على حساب الجميع في مجمل الإقليم.