"قصف" أميركي وهجوم دولي على تل أبيب

31 ديسمبر 2016
+ الخط -
تعيش دوائر الحكومة الإسرائيلية، منذ زهاء أسبوع، حالة طوارئ قصوى، رداً على "قصفٍ خطير" تتعرض له الدولة العبرية، من البيت الأبيض، في الأسابيع الثلاثة الأخيرة من ولاية الرئيس باراك أوباما. وقد تمثل الهجوم في صدور القرار 2334 من مجلس الأمن يوم 23 ديسمبر/ كانون الثاني بامتناع المندوبة الأميركية عن التصويت، بما سهّل صدور القرار، بموافقة 14 عضواً من أصل 15. لم تتقدّم الولايات المتحدة بمشروع القرار، بل تقدمت به أربع دول، هي السنغال ونيوزيلندا وماليزيا وفنزويلا، لكن القرار حظي بموافقة الدول دائمة العضوية، باستثناء الولايات المتحدة التي امتنعت عن التصويت. وقد بدا رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، وهو يعيش حالة من الصدمة، إثر صدور القرار، فالحليف الأميركي سمح بتوجيه إدانات قوية لتل أبيب. وكان نتنياهو ينتظر صدور موقفٍ بالنقض من المندوبة الأميركية، سامانثا باور، كما جرت العادة خلال عقود، حيث استخدمت واشنطن الفيتو 42 مرة لإنقاذ تل أبيب من الإدانة الدولية. الصدمة التي لا تخلو من طابعٍ مسرحيٍّ وصلت الى حد التهديد بمعاقبة الدول التي صوّتت لصالح القرار، وذلك خلافاً للسياسة الإسرائيلية التقليدية القائمة على التوسع في إقامة مختلف أشكال العلاقات مع شتى دول العالم، لإسباغ شرعية دولية على الدولة الصهيونية.. بل وخلافاً لكل منطق، فليست هناك بين الدول الـ 14 من اعتدى على الدولة العبرية، حتى يشحذ نتنياهو، وبقية اليمين المهووس، أسلحتهم. وإلى ذلك، فإن أحداً في العالم لا يرتضي بالغزو الاستيطاني الجاري، منذ وقوع الاحتلال، وبالتالي، ليست إدانة الاستيطان أمراً جديداً على صعيد مواقف دول العالم، وادعاء نتنياهو تعرّضه لمفاجأة صاعقة هو من قبيل المبالغة المتعمدة التي تبلغ حد الكذب.
واقع الأمر أن مصدر صدمة نتنياهو يعود أساساً إلى عودة العالم إلى الانشغال جزئياً بالقضية الفلسطينية، بعدما تراجعت مكانة القضية على الأجندات الإقليمية والدولية في السنوات الست الأخيرة. أقضّ تجدّد الانشغال الدولي مضاجع اليمين الحاكم، وذلك بعد تعميم شعار مكافحة الإرهاب الذي اكتسب اندفاعةً جديدةً، ومُنح أولويةً مطلقةً، بعد إعلان الحرب على "داعش". وبذلك، ظل نتنياهو أحد أبرز من يصوّرون مخاطر الوضع في الشرق الأوسط على أنها تتمثل في محاربة إرهاب "داعش" أولاً. وعليه، جاءت الإدانة الدولية القوية للاستيطان لتوقظ سلطة
الاحتلال من نومها على حرير التقبل الدولي الموهوم للاحتلال وتداعياته، ومن الظن أن حرائق المنطقة في سورية والعراق وليبيا واليمن قد صرفت الأنظار، بصورةٍ شبه كلية، عن الاحتلال الذي طال العهد عليه. علماً أن قرار مجلس الأمن لم يصدر وفق الفصل السابع، بل السادس، فلا يشتمل على قوةٍ تنفيذية لتطبيقه، ولا يتضمن عقوباتٍ على الطرف موضع الإدانة، وهو إسرائيل، وما ينطوي عليه هو قوة معنوية كبيرة، وضربة أخلاقية موجعة لمحاولات تأبيد الاحتلال عبر الغزو الاستيطاني الذي يرسي وقائع مادية على الأرض، المحتلة والمصادرة. وما صدر من صراخ وزعيق عن حكومة نتنياهو ساهم في إلقاء مزيدٍ من الضوء على القرار، وأظهر كم أن سلوك دولة الاحتلال يتناقض مع الشرعية، ومع أحكام القانون الدولي. ها هي تل أبيب تتعرّض مجدّداً للعزلة، بعد قرار منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (يونسكو) في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، والذي اعتبر المسجد الأقصى ومنطقة الحرم الشريف في قلب القدس إرثاً إسلامياً خالصاً، بما ينزع أي غطاء سياسي، أو مزاعم دينية تسوّغ ليس فقط استباحة الأقصى ودوام الاعتداء عليه، بل كذلك تنزع أي تسويغٍ ديني أو سياسي للاستيلاء على القدس واحتلالها.
تعيش إسرائيل، إذن، على وقع الشعور بالصدمة، وكذلك الشعور العميق بالعزلة الأخلاقية عن دول المعمورة وشعوبها، بما جعل الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب، يهب للنجدة !، ويدعو إسرائيل إلى الصمود، وأن تكون قوية، بعد صدور القرار الذي ينطوي على "ازدراء إسرائيل وعدم احترامها". وفي واقع الحال، جاءت قراءة مليادير العقارات القرار معكوسة، فالقرار 2334 يشير الى ازداء إسرائيل المواثيق الدولية والقيم البشرية، بما أثار سخطاً دولياً عليها. والمطلوب تبعاً لذلك أن تتوقف هذه الدولة عن شذوذها السياسي، وعن ازدرائها النواميس البشرية التي لا ترتضي احتلال أرض الغير، وإنكار حقوق شعب كامل. ثم قال الرجل، إن القرار سيؤثر سلباً على المفاوضات، ويضعف فرصة استئنافها، وهو الموقف نفسه الذي عبّرت عنه حكومة نتنياهو. وقد بدا ترامب، في مواقفه هذه، وكأن دافعه الأول إلى ذلك هو الظهور بمظهر المعارض خيارات الإدارة الحالية وتوجهاتها، والإعلان عن أنه سيختطّ سياسةً أخرى، علماً أن هذا الرجل بدأ حملته الانتخابية بالقول إنه سوف يتخذ موقف الحياد التام إزاء الصراع العربي الإسرائيلي، وألمح إلى أن تحالف بلاده مع تل أبيب يلقي أعباءً باهظةً على دافع الضرائب الأميركي.. وكان موقفه ذاك من المواقف الأميركية (الإيجابية) النادرة لزعماء سياسيين، يطمحون إلى تسلم مناصب عليا. ومن المثير للدهشة قوله: انتظروا عشرين يناير.. انتظروني. وهي عبارة يمكن ان تُقال لدى ترويج إعادة افتتاح فندق أو مطعم، بعد أن تسلمت أحدهما أو كليهما إدارة جديدة مفعمة بالوعود الدعائية. إن نسبة الاستمرارية في السياسات من إدارةٍ إلى أخرى في البيت الأبيض، تظل أعلى بكثير من نسبة التغيير. وقد كان الوزير، جون كيري، أكثر موضوعيةً من ترامب، حين وصف تمرير القرار الدولي بأنه ناجمٌ عن القناعة بحل الدولتين، ولخدمة هذا الحل، وأن القرار يتماشى مع المبادئ الأميركية، ومع المصالح الوطنية لبلاده.
لقد بدأ عهد أوباما قبل ثماني سنوات بحملة على الاستيطان، وبعد مضي نحو سنة، كان البيت
الأبيض ووزارة الخارجية في واشنطن يتراجعان عن موقفٍ حازم إزاء الاستيطان، وظل هذا التراجع يطبع السياسات الأميركية المتبعة. وبصرف النظر عن تصريحٍ يلقى هنا أو حديث يدور هناك. وقد عجزت إدارة أوباما عن اتخاذ مواقف متماسكة إزاء التغول الإسرائيلي، وموقفها الأخير في مجلس الأمن من ضروب التكفير المتأخرة عن الذنوب، وقبل أن تحين ساعة الانصراف بقليل.
أما غضبة نتنياهو، فلا تعدو أن تكون وسيلةً جديدةً من وسائل الابتزاز الذي يتسم به الأداء السياسي الإسرائيلي، وامتهان انتحال دور الضحية، وهي لعبةٌ صهيونيةٌ قديمةٌ، تعود إلى بدايات المشروع الصهيوني. وقد دأبت إسرائيل على امتهانها، حتى في أشد حالات التوحش وأكثرها وضوحاً. ومع التنويه إلى أن موقف إدارة أوباما إزاء القرار لم يكن فريداً من نوعه في التاريخ الأميركي، وإن كان الأول والأخير في عهد أوباما، وهو ما أشارت إليه لارا فريدمان، المديرة في منظمة الأميركيين من أجل السلام، وأشارت أيضاً إلى ستة قرارات، خلال ولاية جورج بوش الابن، منها قرار عام 2004 اعتبرته إسرائيل غير عادل، يشجب هدم إسرائيل بيوتاً فلسطينية في غزة، وآخر عام 2002 ينادي بوقفٍ لإطلاق النار وتجميد الاستيطان وبانسحاب إسرائيلي من المدن التي أعادت احتلالها بعد الانتفاضة الثانية، وهو قرارٌ كانت إسرائيل قد عارضته.
والواضح أن حكومة نتنياهو لا ترتضي إلا أن يكون الرؤساء الأميركيون أبواقاً لتل أبيب، وخدماً مطيعين لمصالحها، وبغير أي مراعاة لمصالح بلدهم.