"قايدنا قايد حر"... ليبيا وجنون العظمة مرة أخرى

19 مايو 2019
+ الخط -
تشن قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر -منذ ما يزيد على شهر من الآن- هجوما عسكريا متواصلا على مدينة طرابلس، وذلك بغرض إكمال هيمنته على التراب الليبي والتَّرَبُّعِ على حكمها كزعيم مُتوَّجٍ لما تبقى من عمره الْمُتَقَدِّمِ، ولم لا توريث السلطة لأحد أبنائه الْمُتَنَفِّذِينَ في المؤسسة العسكرية.

وجاء هجومه على عاصمة البلاد بعد أن بسط نفوذه على مدينة بنغازي والمنطقة الشرقية (بقيت مدينة درنة من مدن الشرق خارج هيمنته ليكتسحها السنة الماضية) إثْرَ مَعَارِكَ شَرِسَةٍ خاضها ضد مجلس شورى ثوار بنغازي (تشكيل مسلح ضم مجموعات من الشباب المدنيين المتطوعين الذين واجهوا قوات القذافي في المنطقة الشرقية والهلال النفطي). ولكن انتصاره في بنغازي كلف المدينة دمارا شاملا، مس جميع مرافقها، كما تسبب في تشريد أهلها بعد قتل الآلاف منهم.

وقد رافق إحكام قواته سيطرتها على مدن الشرق الليبي، ارتكابها تجاوزات خطيرة وَثَّقَتْهَا الكاميرات وقتها؛ تمثلت في عمليات انتقام كبيرة وإعدامات ميدانية بالجملة طاولت مقاتلي خصومه المسلحين، ثم أتبعتها بعمليات تدمير مُمَنْهجَةٍ لبيوتهم. ولكن الأفظع من كل هذا، كان التمثيل بجثث القتلى بعد نبش قبور بعضهم وسَحْلِهَا في الشوارع. ممارسات ما ظنناها تصدر من ساكنة هذا البلد العربي الذي أبهرنا بعفويته وطيبوبته وجسارته في سنوات قليلة خلت.


وبعد أن استتب له الأمر هناك، انطلقت آلته الإعلامية في صناعة "الزعيم حفتر"، وشُرِعَ في التَّرْوِيج له كمحارب فَذٍّ حرر البلاد والعباد؛ فتمت ترقيته لرتبة مشير ووُشِّحَ بأوسمة ونياشينَ علت بدلته العسكرية من يومها (يبدو الرجل مَزْهُوًّا بها إلى حد كبير). كما تبارى سكان المنطقة الشرقية في تبجيل وتعظيم "الأخ القايد" الجديد "الْمُخَلِّصُ"، وارتفعت الهتافات بمناسبة ومن دونها في الشوراع والقاعات، مرددة اسمه ومتغنية به "قايدنا قايد حر خليفة بلقاسم حفتر".

وغطت صور"القايد الرمز" شوارع مدن الشرق الليبية بكثافة، لدرجة أني قرأت فيما مضى من هذه السنة مطالبات بعضهم في بنغازي بتخصيص حارس لكل واحدة منها، وذلك بعد أن تكررت عمليات تمزيقها. وأنا هنا ما زلت لا أفهم لماذا يصر الليبيون على استنساخ "قايد جديد" بعد أن اشتكوا طويلا من ظلم "القايد القديم"، وعانوا الأمرين قبل التخلص من حكمه.

وَيُجَلِّي لنا كل ما مضى ذكره، طبيعة التركيبة النفسية لهذا العسكري المتقاعد ومدى نَهَمِهِ للسلطة، نَهَمٌ يصل إلى مستويات يبدو معها مستعدا لتدمير طرابلس بل وكل ليبيا لإرواء ظَمئِهِ منها. ولا أظنه متوقفا عن طموحه هذا إن لم تتغير المواقف في الإقليم والعالم، ذلك أن قوى إقليمية ومعها أخرى دولية ما زالت تُرَاهِنُ عليه وترى فيه الحليف المفضل لحماية مصالحها، هذا مع حِقدِهَا الدَّفِينِ على "ربيع العرب" وآمال التغيير الديموقراطي التي أحياها في نفوس الجميع، فأغْذقت عليه وما زالت بالمساعدات العسكرية واللوجيستية بل والبشرية، حسب بعض المصادر.

وَالْمُتَتَبِّعُ لمسار المعارك في محيط طرابلس ومختلف الصور والفيديوهات القادمة من عين المكان، يسجل الخطر الْكَبِيرَ الْمُحْدِقَ بهذه المدينة إن تمكنت قوات حفتر من دخولها. فبمراجعة تسجيلات قليلة لممارساتها تصل لوسائل الإعلام، يَظْهَرُ لنا مدى توحشها وحقدها على عاصمة البلاد وسكانها، فتجد عناصرها يَقْصِفُونَ المدينة عشوائيا مرددين عبارة "اقصفوا الكلاب" دونما تمييز بين مدني وعسكري.

كما وُثِّق في فيديوهات أخرى لعناصر من تلك القوات وهي تُمَثِّلُ بجثت بعض قتلى الطرف الآخر في المعارك وتسخر منها أمام عدسات الهواتف. وهي للإشارة صفات بعيدة كل البعد عن أخلاق الجيوش النظامية بالرغم من ادعاء اللواء المتقاعد قيادته جيشا نظاميا رافعا كشعار لمعركته هذه؛ محاربة المليشيات الإرهابية غير المنضبطة، التي تشيع الفوضى في البلاد (حسب زعمه طبعا).

والمعروف أن مدينة طرابلس ذات تعداد سكاني كبير مقارنة بباقي المدن الليبية الأخرى، وبالتالي فإن اقتحامها بعقلية رجال "المشير" تلك لا قدر الله، قد يعني حصول كوارث ودمار على غرار ما شهدته بنغازي أو أكثر. و"جيشه" للإشارة خليط من بعض المنتسبين للمؤسسة العسكرية في عهد القذافي، ومقاتلين قبليين ينتمون للمنطقة الشرقية، بالإضافة إلى حلفاء داعمين له من المنطقة الغربية، ومجموعات سلفية يتبع أفرادها مذهب رجل الدين السعودي "ربيع المدخلي".