"في العنف" وتهريبه من الباب الخلفي للإنسانية

31 مايو 2015
آرنت، غرافيتي في مدينة هانوفر لـ باتريك وولترز
+ الخط -

المعركة التي دارت إبان الحرب العالمية الأولى بين الألمان والروس، قرب بيتها وهي بعد طفلة، قد تكون أول حادثة عنف انطبعت في ذاكرة حنّة آرنت (1906-1975) أول رسمة للعلاقة بين السياسة والعنف، والسلطة والسياسة، لمفهوم الدول التي تخوض حروباً.

لاحقاً، ستعرف آرنت تجربة المنافي والاضطهاد في أوروبا بوصفها يهودية، إلا أنها لن تقف عند هذا التعريف الإثني. شخصنة الحكايا، لن يكون جزءاً من منهجها الفلسفي الذي أرادته عامّاً وفي متناول الجميع على اختلاف ثقافاتهم وتقاليدهم وخلفياتهم الاجتماعية، أو مدى ارتباطهم بالسياسة كمفهوم أو مجرّد طريقة.

آرنت، التي عُرفت في كتاباتها باهتمامها بالفلسفة السياسية، تمثّل في الوقت عينه نموذجاً لمثقف تجاوز كل المبررات التقليدية للهوية، والحجج الظرفية التي غازلت المأساة أو الشعور بالقومية؛ أبرز ما أنتجته الحرب العالمية الثانية. وربما يكون تبحرها في فلسفة السياسة ومن ثم استشرافها العنف، ومحاولة فهمه في عملها الضخم، شكلت خلفية لما قالته ذات يوم بأن حب العالم هو من أصعب ما يكون.

في كتابها "في العنف"، الصادر عن دار "الساقي" بترجمة إبراهيم العريس، ترسم آرنت صورة للعنف وحالاته حين تستخدمه الدولة في ظروف حساسة لقمع الشعب تارة، وتحصين نفسها من غزو خارجي أو هجمة، أو الاثنين معاً أغلب الأحيان. تنتهج أسلوباً صارماً في المقاربة والتفنيد، ومناقشة آراء تقليدية لمفكرين وفلاسفة كبار في ما يتعلق بظاهرة العنف.

لا تقبل المفكرة الألمانية أن ترث المفاهيم المتعارف عليها، في شتى المجالات، والتي تبدو كما لو أن مطلقيها أرادوا دوماً تهريب العنف من الباب الخلفي للإنسانية، ومحاولة إيجاد مبررات "حيوانية" له، تجعله مشروعاً أو مقبولاً أو مسلَّماً به في أسوأ ألأحوال. بالنسبة لها، فإن السياسة، والعلوم، التاريخ، والفكر، كلها كانت وسائط للعنف لـ"يلعب دوراً عظيماً في شؤون البشر".

وبالاستناد إلى مقولات كتّاب سابقين في العنف والسلطة، مثل ك. رايت ميلز، وماكس فيبر ودي جوفينيل، وفرانز فانون، وجورج سوريل. تستلخص جملة أسئلة حول ماهية الحروب، وهل هي أمر عارض، أم أن النشاط الذي تمارسه كل الدول على مدار الأزمات. وتسأل "هل من شأن اختفاء العنف من عالم العلاقات بين الدول أن يعلن نهاية السلطة؟".

"في العنف" يعرض للعلاقة المتقلّبة بين السلطة والعنف، وانعكاسات هذه العلاقة اجتماعياً. ويقف عند النظريات والتفسيرات السابقة، ومنها الماركسية التي لن تتصالح آرنت معها تماماً؛ إذ لا مطلق في المجتمعات، ولا يمكن لأي مجتمع أن يتطوّر دون حركة وتقلّبات.

"قوانين الحركة هي وحدها القوانين الأزلية. الحركة موجودة، وهذا كل ما في الأمر"، كما يقول برودون. كذلك ترفض اعتبار أن يكون بين السلطة والعنف ارتباط حيوي. فلا يمكن تبرير العنف بربطه بمصطلحات بيولوجية "على خلفية فعل الخلق نفسه"، كما تقول.

يبدو كتاب آرنت هذا أشبه بدعوة لشقّ وخلخلة كل المقولات المتوارثة بشأن العنف، وكل المفاهيم السياسية التقليدية. كما أنه يدعو إلى أن ننظر إلى العلاقة التي تفرّق بين "نزعات إنسانية" و"نزعات حيوانية"، لنكتشف أن عالمنا القائم على ما نتداوله من معلومات، عالم يقوم على اعتقادات هشة، حول العنف والسلطات بكافة طبقاتها وعلاقتها بالسياسة.

الأسوأ من ذلك، يقوم على مبرّرات تتيح اليوم كل الانتهاكات والممارسات القميئة التي تفتعلها البشرية بنفسها. ناهيك عن الدراسات التي تنشغل بتفسير الظاهرة لتعطيها شرعية أكاديمية وعلمية، وإلقاء اللوم على حيوان ما مثلاً أو آلية سلوكية متوارثة جينياً كمقولة أن الإنسان حيوان عاقل، التي هي بحسب آرنت، مثال على العلم الحديث الذي لا يستند إلى حس نقدي كاف.

المساهمون