لم يكن كتاب رولان بارت "غرفة التظهير" الذي نشر أول مرة في الشهر الأول من عام 1980 مجرّد كتاب عن التصوير، بل إنه بمثابة منهج في قراءة الصورة وضعه السيميائي الفرنسي وعرف نجاحاً كبيراً قبل وفاة الكاتب بشهرين، حيث رحل بارت مع نهاية آذار/ مارس 1980.
الكتاب صدر بنسخة عربية عن دار "نينوى" مؤخراً بترجمة منذر عياشي، تجدر الإشارة إلى أن هذه ليست المرة الأولى التي يُنقل فيها الكتاب، فقد جرت ترجمته تحت عنوان "الغرفة المضيئة" وصدر سابقاً عن "المركز القومي للترجمة" بعد أن نقلته إلى العربية هالة نمر.
مسعى الكتاب الأساسي هو محاولة فهم تلك السمة العبقرية، أو الملمح الجوهري الذي يميز صورة عن سواها، إذ يرى الكاتب أن الصورة تعيد على نحو ميكانيكي ذلك الذي لا يمكن تكراره وجودياً.
باختياره العنوان الفرعي "تأملات في الصورة"، فإن بارت (1915-1980) حرّر نفسه من أي منهجية بحثية أو أكاديمية أو علمية؛ أرخى لنفسه عنان التأمل في 25 صورة قديمة وحديثة وتحليلها - أشياء ومناظر وأشخاص - حيث يترك بارت فكرة غير مكتملة هنا، ليعود ويكملها لاحقاً في سياق طلق من الكتابة.
ثمة صورة يتحدث عنها الكاتب ويعود إليها مراراً وتكراراً لكنه لا ينشرها مع الصور الأخرى، إنها "حديقة الشتاء" كما يسميها، وهي صورة لوالدته التي رحلت قبل أن يبدأ بارت في كتابة هذا العمل، ما ترك وقعاً على مضمونه، من حيث علاقة الصورة بالموت.
تعود هذه الصورة لوالدة بارت وهي في عمر خمسة أعوام وتظهر فيها برفقة أخيها ويبدوان كما لو أنهما متواطئان معاً على مغامرة ما. يصف بارت هذه الصورة بعدة أوصاف فهي تبدو كما لو أنها آخر مقطوعة كتبها شومان وهي الصورة الضرورية والجوهرية وهي خيط أريان، ويتذكر مرض أمه قبل وفاتها حين كان يعتني بها وينظر إلى الصورة فيقول "أمي كانت ضعيفة، وأنا عشت في ضعفها".
يعتبر بارت أنه وفي تلك الفترة أصبحت والدته صغيرته، كانت كما لو أنها عادت تلك الطفلة في "حديقة الشتاء"؛ هذه الصورة وردت في كتاب سابق لصاحب "لذة النص"، ربما لذلك لم ينشرها مرة أخرى، وهو كتابه "بارت بقلم رولان بارت" (1975).
يمكن النظر إلى الصورة، وفقاً للمؤلف، من ثلاث زوايا، الأولى من زاوية المصوِّر، والثانية من وجهة نظر من يشاهد الصورة، وأخيراً من زاوية الشيء أو الشخص الذي يُجرى تصويره.
وهذا الأخير هو في جزء من الثانية ما يعتقد أنه هو، وما يريد لنا أن نعتقد أنه هو وما يعتقد المصوّر أنه هو وما يريد المصوّر أن يخدمه في هذا الشخص أو الشيء الذي يجري تصويره لكي يكون عمله فناً، وليس مجرّد صورة عادية، فالمصوّر يحاول فعلاً منافسة الرسام ويبحث عما يجعل عمله الفوتوغرافي إبداعاً.
لماذا نعود إلى فهم بارت للصورة اليوم؟ لماذا ينبغي العودة إلى كل الأعمال الأساسية التي حلّلت الصورة؟ تبدو الحاجة إلى القدرة على محو أمية الصورة أساسية اليوم، وسط آلات الضخ الكبيرة والعمياء التي نعيش تحت سطوتها، لا يبدأ الأمر بالسيلفي ولا ينتهي بصور الحرب، الحقيقية منها والزائفة.