تأخذ الكاميرا وقتها لإظهار عظمة المكان. بالتزامن مع اكتشاف القصر الفخم، تظهر تماثيل ولوحات ذات عراقة هائلة. إنها فرنسا العظيمة، التي بناها النبلاء المحاربون الشجعان. لكن الأسرة العريقة تعاني غياب وريث يحمل هذا العبء القروسطي، ويحافظ عليه في عصر العولمة واقتصاد السوق.
يقع قصر الكونتيسة، في "عبدل والكونتيسة" (2018) لإيزابيل دو فال، في مدينة صغيرة، بالقرب من سجن مزدحم بمهاجرين مغاربة وأفارقة يتعارك بعضهم مع البعض الآخر. المشهد مرعب. تظهر مفارقة بين تاريخ تلاشى وواقع يغلي في فرنسا اليوم. لصٌّ له سحنة واسم مغاربيان (عبدو/ عبدل) يتعامل مع أرستقراطية ذات "دمٍ نقي" وشعر أشقر وبشرة بيضاء، تمشي بنخوة، وتتبرّع للسجناء بنسخ من رواية "كونت دو مونتي كريستو" لألكسندر دوما، ذات النهاية المتفائلة عن عصر مؤامرات نابليون بونابرت. تنظر إلى عبدل كأنه حشرة. تحقنه بدواء فصيلة أخرى. لا تتصوّر أن الفقراء يملكون الشرف.
ماذا يقول السياق التاريخي عن هذه المقدمة؟
يُذكِّر هذا بالقلق الفرنسي من المهاجرين المغاربيين، المسلمين خاصة، وبإحراق سيارات في الضواحي/ الغيتوهات الفرنسية. عبدو اسم يحيل على مسلم، ويثير رعب اليمين الأوروبي من أسلمة أوروبا. كتب صامويل هانتنغتون: "إنّ معدل الزيادة السكانية الإسلامية يهدّد التوازن الإثني والديني في كل مكان يقع فيه" ("صدام الحضارات: إعادة صنع النظام العالمي"، ترجمة طلعت الشايب، "دار سطور" ـ القاهرة، الطبعة الثانية، 1999). أما فيليب دو فيليي، المرشّح للانتخابات الرئاسية الفرنسية، فقال: "برنامجي هو منع أسلمة فرنسا".
في هذا السياق المشحون والمنذر بالصراعات، ينقلب الفيلم على مقدّمته، ليصوّر عالمًا طيبًا جدًا، وعلاقة ودّية بين أحفاد النبلاء والمهاجرين الملوّنين، رغم أن ابنة الكونت تقتل طائرًا بسبب لونه فقط.
أصل مشكلة الكونتيسة؟ زُهْد الوريث الشرعي الوحيد في الدنيا، وتفرّغه للعبادة. الابنة لا يمكن أن ترث سرّ والدها. الأرستقراطية ذكورية، بينما الحداثة أنثوية. لحلّ المشكلة، يظهر وريث مستعار من فصيلة دم الكونت، لكنه وريث سمسار لا أرستقراطي. ثم يأتي البديل من شمال أفريقيا. صدْقُ نيّة المهاجر أهم من القرابة ونقاء الدم. هذا هو الجسر الذي يخترق عبره المهاجر قلب الأرستقراطية الفرنسية.
يسرد "عبدل والكونتيسة"، بسذاجة تستثير الضحك، علاقة شقراء نبيلة بشاب ذي ملامح شمال أفريقية. كوميديا ناجحة، لأنها تمسّ لبّ تصوّر الفرنسي لنفسه. يرى المتفرّجون الخير جميلاً، حتى لو كانت الحكاية بلهاء.
يقدّم الفيلم عوالم متقابلة عديدة: أرستقراطية، هاجسها التقاليد المقدّسة، في مواجهة بورجوازية يحرّكها الربح، بغضّ النظر عن أية قيم. تَقَابُل مكانين: قصر شامخ في حديقة غنّاء، وعمارات مزدحمة لا شجر فيها. وأيضًا تَقَابُل منظومتين قيميّتين: العراقة والـ"إيتيكيت" في مواجهة الوقاحة في طريقة الكلام واللباس والأكل واحتساء الويسكي.
فيلمٌ فقير سينمائيًا، لكنه على صعيد المضمون يمسّ وترًا حساسًا لدى المتفرّجين. له صدى، وينطبق عليه قول الناقد السينمائي الفرنسي جان ـ ميشال فرودون: "اليوم، هناك سينما وصفية هي بالنسبة إليّ أقرب إلى التلفزيون. أو بالأحرى، تقوم بالمهام التي ينبغي على التلفزيون أن يضطلع بها، لكنه لا يفعل. السينما تقوم اليوم بهذا الدور، لكن النتيجة: سينما فقيرة وسطحية".
تتجلّى السطحية في شخصية عبدو/ عبدل. في سيرة بطل مضاد وساذج وفاشل لكنه صادق وطيب. لا يفكر في قتل سيدته، كما فعل عمر في "عمر قتلني" (2011) لرشدي زيم. هذه الطيبة يفتقدها المتفرّج في بيئته، ويجدها في فيلم يلاقي هوى الجمهور في ضفتي المتوسط. بالنسبة إلى شاب جنوبي، يمثّل عبدو/ عبدل نموذجًا للنجاح بالزواج من شقراء ثرية تضمن الحب والرفاهية؛ ويمثّل للمتفرّج الشمالي اختراقًا وتهديدًا للهوية الوطنية العريقة، التي يشوّهها الغرباء الدخلاء. هذا هاجس تخجل وسائل الإعلام التقدمية من تسميته.
يُستنتج من ذلك أن السوسيولوجيا روحَ الكوميديا التي تسخر من السلوكات الشعبية الراسخة، والتي تظهر بين حين وآخر في وسائل الإعلام. حتى لو كانت المقاربة سطحية، فالكوميديا تُضحك الناس إزاء تعقيدات وضعهم. في الفيلم سخرية من تعقيد تقاليد بالية في عصر انتصار "الحركة الانسية" على "الفيودالية" وتوابعها. سخرية من أرستقراطية فاتها القطار ولا تهضم أن البورجوازية صنعت طفرة في طريقة تأويل العالم. يتجلّى هذا في ثقافة "روك أند رول" التي تؤطر نمط عيش الشبان، وتستفز الذوق التقليدي.
يتأسّس "عبدل والكونتيسة" على صراع طبقي. انتقل معجم العراقة إلى فم الخادمة، فتماهت مع أسيادها. هذا حَجَب واقعها عن عينيها. اخترقت هذه النظرة المستلبة الفيلم بكامله، خاصة عندما تنزعج الأرستقراطية من العيد الفرنسي في 14 يوليو/ تموز. بالنسبة إليها، هذه ليست ثورة بل إهانة. إنه زمن يذكّرها بسيطرة الرعاع على سجن "الباستيل" وقتل ملك فرنسا المبجّل.
لم تتصالح الكونتيسة مع تاريخ بلدها، لكنها تتصالح مع المهاجر المغاربي. هكذا يقدّم الفيلم نهاية سعيدة ذات أهداف تجارية واضحة. يتسلّم عبدو سيف الجد الأمير عبد القادر، وينتهي الفيلم بأغنية جزائرية شهيرة تؤكّد أن المهاجر سيتعب وسيعود إلى بلده.