"طريق البيت" لوائل قدلو: سيرةٌ وحكايات

06 مايو 2019
وائل قدلو: مكاشفة الماضي (فيسبوك)
+ الخط -
يواجه السوريّ وائل قدلو والديه المُطلّقين أمام كاميرا "طريق البيت" (2018، إنتاج لبناني سوري، 65 دقيقة). يُخبرهما بتساؤلاته المتعلّقة بهما، وبحكاياتهما معًا، هما المرتبطان بزواجٍ، يتبيّن لاحقًا أنّ الحبّ فيه قليلٌ، وأنّ الفرق الطبقي الاجتماعي بينهما يحول دون تفاهم بين عائلتيهما. يستدرجهما إلى مواقع يريدها، كي يُدرك مخفيًّا، أو بعضه. بعد الطلاق، يُقيم مع جدّته لأبيه، التي تتولّى تربيته. يُصاب بمرض سرطانيّ، يُشفى منه بعد علاج.

يحمل الكاميرا بحثًا عن ماضيه المخبّأ في سيرتَي الوالدين، وعلاقتهما المرتبكة، وغضب أحدهما على الآخر. يغوص في تاريخه العائلي الضيّق، كي يستعرض مسارًا حياتيًا مُفكَّكًا ومُقلِقًا، فيلتقي والديه وعمّه أيضًا (كلّ واحد منهم على حدة)، كي يكتشف الحكاية الأصلية، وكي يبحث عن منفذ منها إلى خلاصٍ ذاتيّ. مواجهة الوالدين، مباشرة غالبًا وعبر عمّه أحيانًا، لن تُفكِّك علاقتهما فقط، بل تكشف شيئًا كثيرًا من علاقة كلّ واحد منهما به، ومن علاقة الجدّة والعمّ به أيضًا. التوغّل في خفايا الماضي منبثقٌ من رغبة شخصيّة في تعريةٍ، يريدها مدخلاً إلى مصالحة مع الذات، لوالديه وعمّه ربما، وله أساسًا.

عنوان الفيلم (طريق البيت) يُنبِّه إلى مضمونٍ ينكشف، تدريجيًا، أمام عيني المخرج وعدسة الكاميرا، رغم أن النواة الدرامية للحبكة حاضرة في تعنّت (خجول) للأم (اتحاد) إزاء موضوع زواجها الأول (صيّاح)، الذي تُنجب منه ابنها، الجالس إليها الآن لمعرفة الحكاية وفهم مضمونها وتفاصيلها، أو بعض الحكاية على الأقلّ. السرد العائلي للحكايات الخاصّة يبدأ من لحظةٍ، يعتبرها وائل قدلو أساسية: ولادته في دمشق عام 1980 متزامنةٌ وبدء تنفيذ مشروع شقّ طريق قرب منزل الجدّة. ما يقوله قدلو يُوضح معالم أساسية: تمرّ 5 أعوام قبل تعرّفه إلى والده. عام 2000، يبدأ البحث عن والدته. هذا موصوف بتعريفٍ مُقتضب بالفيلم، يقول إنّ الحاصل معه "دافعٌ إلى استعادة ماضٍ غير منتهٍ، ومحرِّضٌ على إيجاد توازن ـ عاطفي واجتماعي ونفسي وروحي ـ لقدلو نفسه".

مع جدّته لأبيه (وفيقة)، يعيش وقتًا مديدًا. الجدّة لن تظهر أمام الكاميرا بسبب وفاتها (2011). استعادة زمنٍ ماضٍ مُعلَّق تبدو مرآة خفيّة لاجتماع سوري أيضًا، تكشف عادات بيئة وزمن، وتقاليد وطقوسًا وأهواء. فالأم مولودة في اجتماعٍ منفتح ومتحرّر، يمنحها عيشًا أسلس من تربية أبٍ تقول (التربية) بنقيض مطلق لحياة الأم. التنقيب عن مفردات الحكاية ومضامينها مترافق والتقاط تفاصيل وجوانب وأمزجة وهواجس موغلة في تجذّرها في اجتماعٍ سوريّ. الانشغال بترميم حكاية، لن يحول دون مواجهة أناسٍ يتصادمون ويتناقضون ويشعرون، بل يعيشون "عداءً" (أو بالأحرى غضبًا يختزل مشاعر كثيرة أخرى) فيما بينهم.

هذا كلّه مُشابهٌ لحالة سينمائية غير جديدة، وإنْ تكن غير قديمة أيضًا، تعرفها صناعة الفيلم الوثائقيّ العربيّ. أعوامٌ فائتة تشهد نتاجًا وثائقيًا غنيًّا بصُوَر وشهادات واشتغالات سينمائية، تمزج الشخصي البحت بعوالم وتفاصيل ومسارات وتبدّلات عامّة. النتاج الوثائقيّ اللبناني مثلاً معقودٌ على كشف تاريخٍ وذاكرة وحكايات عامّة عبر أهل وأقارب. الذاتيّ يُفكِّك العام، وفي تفكيكِهِ العام يُعرّي ذاتًا وعلاقات، دافعًا إلى اغتسالٍ وتصالح. ما يفعله وائل قدلو في "طريق البيت" جزءٌ من حراكٍ وثائقي عربيّ، غير متردِّد عن وضع الذات أمام مرآة نفسها وعائلتها ومجتمعها، لا لفضحٍ ساذج أو مُسطّح أو خبيث بسلبيّته، بل بهدف العثور على تفسيرٍ أو فهمٍ أو معرفة، لبلوغ مُصالحة مطلوبة مع ماضٍ وحاضر، ومع أناس وسلوك.

الذاتيّ هذا، الموضوع أمام مرآة نفسه، ينفتح على كلّ شيء آخر: سياسة وتاريخ واجتماع وثقافة عيش وسلوك، وأيضًا محطات ومتغيرات. حكاية وائل قدلو مع والديه المُطلّقين، ومع جدّته وعمّه، مفتوحة على حكاية دمشق واجتماعها ومسالك ناسها وتصرّفاتهم وتفكيرهم. بلوغ مرحلة من المكاشفة المؤلمة بينه وبين أفراد عائلته هؤلاء يتزامن واندلاع الحراك المدنيّ العفوي السلميّ (18 مارس/ آذار 2011)، ومطالبة محقّة بكرامة وعيشٍ سوي. لن يتغاضى قدلو عن هذا. يتابع وقائع اللحظة، فينتقل الحدث إلى غرفة الجلوس، حيث تناقش الأم ابنها فيه (الحدث). هذا كشفٌ إضافي لواقع ولراهنٍ. هذا تبيانٌ بصري لنزاع بين أناس مختلفين في كيفية مواجهة نظام باطشٍ، كأن تُعيب الأمّ على ابنها وجيله حراكهم المؤدّي ـ بحسب منطقها ـ إلى "تخريب" البلد، فيرفض الابن اتّهامًا كهذا.

"طريق البيت" هو أيضًا طريقٌ إلى الذات والروح والنفس. دربٌ يفضي إلى مكاشفةٍ وتحرّر، ولو قليلاً، من ثقلِ موروثاتٍ وتساؤلات. وفرة المُقابلات لن تحول دون جمالية اشتغال شفّاف وصادق وهادئ. التعرية مطلبٌ، والكاميرا أداةٌ، والغوص في متاهات الماضي وأسئلته المعلّقة محاولة لنفاذٍ من وجعٍ أو لرغبةٍ في الكشف أو لحاجة إلى فيلمٍ يقول، بكلامٍ وصُوَر، بعض تلك الذات والروح والنفس.

(*) يُعرض "طريق البيت" مساء اليوم الاثنين، 6 مايو/ أيار 2019، في صالة سينما "متروبوليس" (بيروت)، في إطار النسخة الـ15 لـ"شاشات الواقع"، المُقامة بين 2 و12 مايو/ أيار 2019.
المساهمون