"شكشوكة" أيلول

16 سبتمبر 2014
+ الخط -

منذ بواكير طفولتي، كففت عن تناول "قلّاية البندورة مع البيض"، أو ما تسمى "الشكشوكة" في بعض أنحاء بلاد الشام. كرهتُها، حتى أن أمي، وكذا زوجتي في زمن لاحق، امتنعتا عن تحضيرها، بتاتاً، في منزلنا، احتراماً لموقفي غير القابل للمساومة إزاء هذه الأكلة المحببة لدى كثيرين.
بدأت قصة نفوري منها، أي من "الشكشوكة" إياها، في مثل هذه الفترة من عام 1970. كانت أيام قليلة قد مرت من شهر سبتمبر/أيلول، حين تيقن الناس من أن صراع النظام الأردني مع فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة، صار على وشك الانفجار الكبير. وقد احتاط جدي لأمي، رحمه الله، قبيل اندلاع الحرب، بأن اشترى ما كان يسمح به فقرنا، من المواد التموينية؛ بضعة أكياس طحين، وبضعة صناديق بندورة، ثم أمرنا، نحن أطفال العائلة، آنذاك، بجمع ما نستطيع من الحطب الملقى على جنبات الحارات والأزقة البائسة، في حين كانت جدتي لأمي، رحمها الله، تقتني في حاكورة منزلها عشر دجاجات وديكاً، ومثلها تفعل والدتي، أطال الله عمرها، في فناء منزلنا البسيط، لتنتجا نحو 15 إلى 20 بيضةً يومياً.
هكذا بات طعامنا شبه مضمون، طوال الأيام التي سيستغرقها القتال؛ خبز صاج، تتسلل جدتي، كلما هدأ القصف المدفعي، لتخبزه على الحطب في فناء المنزل، و"شكشوكة" البندورة مع البيض، تعدّها أمي وخالتي في الأثناء، على "بابور الكاز"، ثم تدلقانها، في صينيّتين كبيرتين، نلتف حولهما، ونأتي على ما فيهما، خلال دقائق قليلة.
كنا ثلاث أُسر صغيرة، هي أسرة جدي، وأسرتنا، إضافة إلى أسرة خالتي. وكنا نقطن بيوتاً متلاصقة، وشديدة التواضع، في الجبل الأبيض، أحد أحياء مدينة الزرقاء، التي شهدت قتالاً عنيفاً بين الجيش الأردني والفدائيين الفلسطينيين. أجبرنا على اللجوء، وعددنا نحو عشرين نفراً، غالبيتنا من الأطفال، إلى قبو تحت منزل جدي، بالكاد تبلغ مساحته عشرين متراً.
غربال الذاكرة أسقط، طبعاً، كثيراً من تفاصيل تلك التجربة المرّة، واحتفظ، بما يكفي منها، لكي يبقيها حية، مؤلمة، وطريفة، حتى بعدما مرّ عليها ما يقارب نصف قرن. من ذلك، مثلاً، أن سطوة جدي، وهيبته، أو لعلها أحزانه، التي رافقته إلى آخر حياته، كانت تحول، دون أن نطلق العنان لطفولتنا، أو أن نضحك بصوت مرتفع، طالما هو جالس، في صدر القبو الضيق، ويلف سجائر التنباك العربي "الهيشي" ليدخنها بلا توقف.
على العكس، كانت جدتي ملجأنا الذي نفرّ إليه من ملجأ جدي. ما إن تخرج في لحظات توقف القتال، لتعد خبز الصاج، حتى نلحق بها، ونأكل ما تخبزه، ساخناً، وأولاً بأوّل، من دون أن نتوقف عن اللهو.
وأتذكر من أحاديث الكبار، أنهم كانوا يتعجبون، من أننا نحن الصغار، قد انفتحت شهيتنا الجماعية للطعام، في أيام الشح تلك، فصرنا نأكل أكثر بكثير من المعتاد، وهو أمر ظلّ يثير خشيتهم من أن ينفد مخزون الغذاء، قبل أن ينتهي القتال.
وإن شئتم الحقيقة، التي تحيرني، فأنا لم أنفر من "الشكشوكة" في أيام سبتمبر/أيلول، الذي صار يُكـنّى لاحقاً بالأسود، بل لطالما أكلتها، وجبة غداء يومي، مثل سواي من أطفال العائلة، وبالشهية ذاتها، التي كنا نأكل فيها الخبز والشاي، وجبات إفطار وعشاء.
النفور حدث في ما بعد. لا أدري متى، ولماذا، على وجه الدقة، لكني ما زلت أتذكّر، آخر عهدي بالود مع "الشكشوكة". فحين شارفت المعارك على النهاية، وأخذ إطلاق النار بالتراجع، كان مخزون البندورة قد نفد فعلاً، وكذا الطحين والحطب، فلم يعد أمام جدي من خيار لإطعامنا، سوى ذبح الديوك. قال إنها لم تعد ضرورية، وما إن التهمناها، في عشية ذلك اليوم، حتى كانت الحرب قد وضعت أوزارها.

 

EA99C928-BF02-4C77-80D6-9BE56F332FDE
ماجد عبد الهادي

صحفي وكاتب فلسطيني