قامت المخرجة المسرحية أنيا كونيتسكي بتقديم عرضها الجديد TESTLAUF ضمن فعاليات مهرجان شبيل آرت المسرحي في ميونخ الذي انتهت عروضه مؤخراً.
بدأ العرض كما هو معلن عنه في برنامج المهرجان الساعة العاشرة ليلاً، ولكن لم يدخل الجمهور القاعة إلا بعد مضي ما يقارب الربع ساعة وهم ينتظرون أمام الباب. لهذا التأخير مغزاه، فقد أريد للمتفرجين أن يشكلوا مجموعة متآلفة تتبادل الحديث والنقاش إلى أن يفتح العرض أبوابه.
تستمر هذه الدعوة خلال العرض، ويطلب الممثلون الخمسة من الجمهور أن يتجولوا في القاعة ليتصرفوا بحرية وتلقائية وديموقراطية كما وصفوا دعواتهم خلال العرض، فالمكان متاج للجميع رغم خجل الكثير من المتفرجين من المبادرة.
يستمر العرض على هذا المنوال، ويطلب الممثلون من الجمهور أن يدلوا بآرائهم حول مواضيع عديدة، والتبرع بالنقود لمن هو محتاج داخل القاعة ومعاونتهم في تصميم العرض والرقص وفي نهاية العرض مشاركتهم المشروب.
لا توجد مقاعد في العرض، يتشارك الممثلون والمتفرجون المكان ويستلقون على الأرض ويتحدثون ويرقصون. ينتهي العرض دون الإعلان عن النهاية يستطيع أن يغادر من يرغب، ويبقى الممثلون طالبين من الجمهور أن يشاركوهم الشراب بدعوة أخرى لتشكيل تجمع مسرحي بين الممثلين والجمهور.
يبقى أمر البقاء أو المغادرة للجمهور، ليخرج العرض عن الشرط المألوف للبداية والنهاية للعرض المسرحي كما يخرج عن الفصل المتعارف عليه بين الممثلين والجمهور.
عرض TESTLAUF هو الأكثر وضوحاً في دعوته للمشاركة واللعب مع الجمهور. وكما يوحي اسم المهرجان (Spielart) والتي تعني تحوي مفردة "اللعب"، تتفق معظم العروض المشاركة في المهرجان على هذا التوجه.
نظم المهرجان، إضافة إلى العروض المسرحية، مجموعة عروض تجهيز في المكان ومحاضرات وندوات معظمها منفتح على موضوعة اللعب ومشاركة الجمهور بأفكار المسرح وتقنياته.
شارك المسرحي اللبناني ربيع مروة في المهرجان بعرضين مسرحيين جديدين، وكان الكلام مع الجمهور أحد التوجهات التي اختارها مروة في العرضين اللذين شاركا في المهرجان. قام مروة في مسرحية "أنشودة الفرح" عملية ميونخ عندما خطفت مجموعة من الفلسطينيين رياضيين إسرائيليين عام 1972. يستغرب مروة غياب رواية عربية وفلسطينية لهذه الحادثة، كما يحاول أن يقتفي العرض المشاعر والأحاسيس التي بقيت بعد العملية.
قام الإسرائيليون باستهداف القادة الفلسطينيين وكان تفخيخ سرير النوم أحد أشكال الانتقام الإسرائيلي. يركز العرض على فكرة تفخيخ سرير المستهدف، ويضع الجمهور أمام رعب هذه العملية التي تستهدف أكثر لحظات الأمان. تطلب إحدى الممثلات الإنصات إلى صوت التفجير وإلى تخيل ما يمكن أن يحدث عندما يقوم أحدهم بتفجير السرير، ويستمر سرد الوقائع وتجريب التفجير، إلى أن ينتهي العرض بعملية تفجير سرير صغير بحجم اللعبة.
وفي العرض الثاني "الركوب على غيمة" يدعو مروة أخاه ليحدثنا عن إصابة الأخير من قبل قناص خلال الحرب الأهلية في لبنان. العرض مرة أخرى هو استحضار حادثة مرت عليها عشرات السنوات، ولكن الحادثة هذه المرة، حادثة شخصية صرفة، على خلاف عملية ميونخ.
هي حادثة لم يدونها إلا من جرت معه هذه الحادثة، يجلس الأخ ويروي ما حدث معه ويتداعى بذكرياته وأغانيه وقدمه المصابة. وفي الحالتين كان الجمهور أمام منممات صغيرة ومبعثرة، ولكنه مدعو إلى تركيب الحكاية وتركيب السياق السياسي والشخصي للحوادث التي يتكلم عنها مروة.
وفي عرض "الحدائق تتكلم"، تقوم المسرحية اللبنانية تانيا خوري بدعوة الجمهور إلى الدخول إلى قاعة والتفاعل هذه المرة مع من ماتوا. تستقي خوري مادتها من الثورة السورية ومن تجربة دفن الناشطين في الحدائق.
هناك عشرة قبور في القاعة المليئة بالتراب، ويتوجب على الجمهور الحفر في التراب أمام كل قبر ليجدوا مكبرات صوت صغيرة مدفونة في التراب. يستمع كل متفرج إلى حكايات مختلفة للناشطين الذين تم دفنهم في حدائق سوريا.
هي دعوة واضحة وجريئة من خوري التي تتطلب من المهتم بالحكاية السورية أن ينقب ويبذل جهداً ليجد الحكاية المدفونة، ومن بعدها يتم توزيع بعض الأوراق على المتفرجين ليكتبوا رسالة ما إلى الناشط الذي تمت رواية قصته، على أن تصل هذه الرسائل من الجمهور البعيد إلى أهالي وأصدقاء الناشطين.
موضوعة الموت وقساوتها ومجابهتها كانت أيضاُ حاضرة في العرض المسرحي "الأشباح"، والمستقى عن نص إبسن بالعنوان نفسه، ولكن هذه المرة يتحدث المسرحيان الألمانيان ماركوس وماركوس عن موضوعة القتل الرحيم. يستخدم الممثلان الشاشات ويتعقبان الأسابيع الأخيرة لحياة امرأة قررت أن تنهي حياتها بإرادتها دون ألم.
يتابع الجمهور المراحل الأخيرة لحياة المرأة بينما يقوم ماركوس وماركوس بالتعليق على الحدث وتأدية مونولوغات منتقدين الحياة العصرية التي تدعو امرأة لتقرر الموت لا لشيء إلا لأنها لا تستطيع مواجهة ضغوط الحياة اليومية.
يبقى سؤال أخلاقيات العصر مفتوحاً على النقاشات والعروض، وخاصة عندما خصص المهرجان مؤتمراً لثلاثة أيام عن موضوعة المقاومة والفن.
وبالطبع اجتمعت الأراء على مناهضة الطغاة والاستبداد، وتبادل المشتركون آراءهم في الكيفية التي يستطيع الفن أن يطرح انتصاره للمستضعفين دون الوقوع في مطب البروباغاندا، ولكن يبقى السؤال الأشد إلحاحاً هو حول ما يعرض على المسرح، وما تقبله الذائقة وما الذي يمنع عرضه على المسرح.
يخرج المهرجان عن التعريفات الجاهزة لماهية المسرح، فالمسرح (بأسمائه النقدية الجديدة كالتجريب وفنون الأداء وفنون التجهيز في المكان) قد كشف ما كان يخفيه المسرح عن الجمهور. التعريف غير ضروري أمام القدرة على الاستفادة مما أتاحته الحرية المسرحية للوصول إلى استفزاز أكبر للجمهور.
يأخذ هذا الاستفزاز أشكالاً متنوعة بدءاً من التفاعل الحي والمباشر للجمهور مع العرض، وانتهاء بمواجهتم لمواضيع غاية في القسوة كالقتل الرحيم واخفاء جثث الشهداء من قبل ذويهم، والتنقيب للوصول إلى الحكاية ومعرفة ما حصل.
كان المهرجان فرصة لاختبار ومناقشة قضايا راهنة حساسة على المسرح، وفرصة لاختبار ما هو مسموح عرضه والمساحة التي يسمح للمسرحين فيها بتجسيد ما يريدون الخوض فيه. كان المسرح استجابة لصرخات عديدة أطلقها مسرحيون عدة في أواخر القرن الماضي: "إن لم نستطع القيام بما نريده على المسرح، فلن يكن بوسعنا أن نقوم بأي شيء خارج المسرح".