"شارلي إيبدو دنماركي": تفاصيل ساعات الرعب

16 فبراير 2015
خلخل الهجوم الثقة بما كان متخذاً من إجراءات(فرانس برس)
+ الخط -

لم تشهد الدنمارك منذ عام 1965 ضربة أمنية على غرار التي تلقتها منذ عصر السبت الماضي. وبحسب ما اعترفت الشرطة الدنماركية، فإن شخصاً واحداً، من المعتقد أنه المنفذ الوحيد للهجومين اللذين استهدفا مركزاً ثقافياً وكنيساً يهودياً، دفع المجتمع الدنماركي نحو حالة طوارئ وصدمة غير مسبوقة، بعد أن أدى تبادل إطلاق النار معه إلى نتيجة ثقيلة على الدنمارك، تمثلت في مقتل شخصين فضلاً عن مقتله، فيما سقط خمسة جرحى من رجال الشرطة والاستخبارات.

بدأت الاعتداءات بهجوم المنفذ، الذي قالت الشرطة فوراً إن "ملامحه عربية" على الرغم من أنه ملثّم، على مركز ثقافي في منطقة استوربرو في كوبنهاغن، حيث كانت تقام ندوة حول العلاقة بين "حرية التعبير والفن وازدراء الأديان"، بمشاركة من السفير الفرنسي، فرنسوا زيمرا، ربما كتأكيد على قضية التضامن الأوروبي الداخلي بعد هجوم "شارلي إيبدو"، بالإضافة إلى رسام الكاريكاتور السويدي لارس فيلكس، المتخفي والمحمي جيداً أمنياً، والذي هدده تنظيم القاعدة في أكثر من مُناسبة.

الارتباك الأمني في التعامل مع الهجوم بدا واضحاً في البداية، حين سقط شخص نتيجة إطلاق نار اخترق زجاج نوافذ المركز الثقافي الذي كان من المفترض أن تعقد الندوة فيه، وجُرح اثنان من رجال الاستخبارات المكلفين بحراسة رسام الكاريكاتور السويدي. ضربة جعلت إحدى شاهدات العيان مصدومة بعد دقائق قليلة من سماع صدى الطلقات. وروت ما شاهدته قائلة "لقد مر المهاجم من جانبي، وهو يحمل بندقية، وأنا أقود دراجتي الهوائية، قابلته وجهاً لوجه وخفت أن يقتلني لأني تعرفت عليه. بدا هادئاً جداً في تحركاته. لم أفهم لماذا لم يكن رجال الشرطة وعنصر الاستخبارات الذي شاهدته يشهر مسدسه ويحمل لاسلكياً بيده، يطاردون ذلك الشاب المسلح". الشهادة التي نقلها التلفزيون الدنماركي، سرعان ما استدعت طلب الشرطة من المواطنين "بعدم التصريح بشيء". لكنها ستفتح باب الأسئلة التي بقي كثير منها بلا أجوبة.

وعلى إثر الهجوم الأول، عاشت الشرطة الدنماركية مع بقية الأجهزة الأمنية حالة من الاستنفار الذي لم تشهده البلاد في تاريخها، إذ بدأت عملية مطاردة ليلية لمنفذ الهجوم خصص لأجلها، وبحسب المصادر الأمنية، أكثر من ألف شرطي وأمني.

تلك المطاردة الأمنية التي جعلت الشرطة تنتشر في معظم المحطات الرئيسية والفرعية وتفتش المطار والقطارات، فشلت فيما يبدو في إيقاف المهاجم. فبعد الهجوم الأول، تبين أن المنفذ استطاع بعد نصف ساعة أن يعود بسيارة أجرة إلى شقة سكنية، بحسب ما كشفت عنه شهادة السائق وكاميرات المراقبة في الحادية عشرة من منتصف ليل السبت، ثم ينزل من الشقة ويتابع هجومه لاحقاً، ضد كنيس يهودي، فأطلق النار على حارس شاب.

وعلى الفور، تجددت حالة الذعر والاستنفار حين أكدت الشرطة إصابة ثلاثة من رجالها ومقتل شخص مدني. وبقي الاستنفار مستمراً حتى بعد الإعلان عن قتل المسلح الذي يعتقد بأنه منفذ الهجومين من دون شركاء حتى الآن، إذ أكدت الشرطة في بيانات مقتضبة أن الحديث هو "عن منفذ واحد" بعد أن كان التحليل عن "منفذين".

وما يرشح من التسريبات الأمنية بأن أفلام المراقبة تأخر تحليلها لمعرفة الشقة التي قصدها مبكراً هذا المهاجم، لكن الشرطة توصلت إليها بعد التحقيق مع سائق سيارة الأجرة وشهادة جارة للشقة في منطقة تعج بالمهاجرين. وظلت الشرطة تراقب الشاب، بعد أن نفذ هجوم الكنيس اليهودي وعاد، إلى أن نزل من الشقة، وحين حاولت توقيفه بادر إلى إطلاق النار فوراً على الشرطة. وعلى الإثر، جرح شرطيان بجراح متوسطة، فردت عليه الشرطة بإطلاق النار على رأسه وقتلته، صباح الأحد، لينتهي يوم طويل وقاس على الدنمارك، ولو لحين اتضاح كل الملابسات المتعلقة بالاختراق الأمني.

ومع انتهاء المطاردة، أكد رسام الكاريكاتور السويدي لارس فيلكس، أنه "المستهدف من هذا الهجوم"، وربط بين التهديدات الإرهابية وقضية الرسوم. أما الجالية اليهودية، فوجدت في الهجوم ذريعة فورية للحديث عما "يتعرض له اليهود في كل مكان"، فيما كان رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، يدعو يهود أوروبا إلى الهجرة إلى إسرائيل بعد هجوم كوبنهاغن، مكرراً محاولة استثمار الجريمة على غرار ما حدث بعد هجوم باريس. إلا أن خبراء الشؤون الإرهابية يظنون أن "الأمرين مقصودان، ولم يكن استهداف الكنيس اليهودي مصادفة".

من جهتها، لم تتأخر رئيسة الوزراء الدنماركية هيلي تورنينغ شميت، في الإعلان عن أن ما جرى "عملاً إرهابياً"، لتنهال بعدها اتصالات أوروبية تحرص على إظهار التضامن مع كوبنهاغن، بمن فيهم الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، الذي قالت وكالات الأنباء إنه سيرسل وزير داخليته إلى كوبنهاغن، وإعلان سفير باريس المشارك في الندوة، بأن الأمر "مثل شارلي إيبدو، ولكن هنا أطلقوا النار علينا من الخارج، ولم يستطيعوا اقتحام المركز".

وفي مقابل ثناء رئيسة الوزراء الدنماركية على "عمل الشرطة والأجهزة الأمنية"، بقولها "تحركوا بسرعة واستجابوا للتحدي لتأمين أمن المواطنين. أشعر بسعادة بأن الأمر انتهى، وبأن المهاجم المفترض قد قتل"، يبدي مراقبون ومحللون خشيتهم من أن الأمر ليس "سوى بداية قد تكون أكثر وطأة مما يظن الساسة". وهو أمر أكد عليه الخبير في مجال الدفاع ومكافحة الإرهاب ماونوس رانستروب الذي اعتبر أن "هذا الهجوم هو الأكبر والأعنف في تاريخ الدنمارك".

وترافق صدور بيانات تطالب المواطنين بالتعاون مع الشرطة للكشف عن شاب "بملامح عربية" مع ربط محللين وخبراء بين الهجومين وما حذروا منه سابقاً من "أعمال إرهابية فردية" تستلهم خطابات ودعوات القاعدة و"داعش" لاستهداف مصالح الدنمارك بنتيجة مشاركتها في التحالف الدولي من ناحية، وبأنها أول من فجر في صحافتها ما سمي "قضية الرسوم المسيئة".

كما أن المحللين والخبراء يتحدثون، عبر وسائل الإعلام الدنماركية، بأن الأمر، ربما "يرتبط باستلهام هجومات فردية واستنساخ شارلي إيبدو".

وذهب الخبير في شؤون الشرق الأوسط لارس اليرسلاوف، إلى اعتبار أن "القضية فيما يبدو عملية استنساخ لما جرى التحذير منه سابقاً عن قيام أفراد كانوا موضوعين تحت المراقبة ممن يسمون محاربي سورية (من الشباب العائدين من القتال في سورية)".

وخلخل الهجوم ومنفذّه، الثقة بما كان متخذاً من إجراءات أمنية ورقابة صارمة من قبل السلطات في البلاد بحق من يظن بأنهم "جهاديون" أو ممن عادوا من سورية، إذ رجحت المعلومات أن المنفّذ "ربما يكون شابا مولودا في الدنمارك" استطاع الإفلات من الأطواق الأمنية ليصل منطقة قريبة من محطة نوربرو حيث يوجد الكنيس اليهودي. كما أن المهاجم تمكن من الوصول إلى الشقة السكنية لدقائق قبل أن يعاود الخروج إلى الشارع ويخترق الطوق الأمني باتجاه الكنيس اليهودي. وهي خطوات رأى فيها خبراء في شؤون الإرهاب بأنها تكشف أن الأمر لم يكن عشوائياً بل كان المهاجم "يدرك بأن هناك احتفال تعميد في الكنيس عند منتصف الليل وفجر الأحد".

أما الصحافة الدنماركية فذهبت جميعها تقريباً في اتجاه تأكيد أن "هجوم كوبنهاغن هو شارلي إيبدو متنقل". والهدف منه ضرب حرية التعبير. وعادت معظم الصحف إلى التذكير بأزمة الرسوم الكاريكاتورية التي بدأت في صحيفة "يولاندس بوستن" قبل عشر سنوات، معتبرة بأن الدنمارك حينها "واجهت تلك الأزمة منفردة من دون تضامن أوروبي كاف. أما اليوم فيتسابق الفرنسيون وبقية الأوروبيين وحتى الأميركيين لإعلان تضامن معنا". كما أكدت افتتاحيات الصحف أن "التهديد لمجتمعات الحريات واضح، كما أن حساسيتنا الشديدة وانكشافنا في مواجهة التطرف واضح أيضا"، وذلك بحسب افتتاحية صحيفة "بوليتيكن" الواسعة الانتشار.

وحدها صحيفة "يولاندس بوستن"، مفجرة الأزمة قبل عشر سنوات، شذت في افتتاحيتها عن بقية الصحف، مركزة في تغطيتها لعدد أمس على "دور ألمانيا في أوروبا". بعضهم يعزو موقف الصحيفة إلى أنها ما تزال تحت وقع التهديدات الموجهة لها ولرسام الكاريكاتور كورت فيسترغوورد.

المسلمون خائفون

وفيما انتشرت حالة من الغضب بعد الهجوم بين صفوف المواطنين، بدأت تخوفات كبيرة بين الجالية المسلمة في الدنمارك بأن يستغل مثل هذا الهجوم للتحريض عليهم وبالرغم من محاولات الشرطة وبعض السياسيين التأكيد على أنه عمل فردي ومن دون أي تعاون مع خلية أو أشخاص، على الأقل حتى اللحظة، في إطار محاولات رسمية لضمان عدم خروج الأمور عن السيطرة.

وسارعت الجمعيات الإسلامية في الدنمارك منذ اللحظة الأولى للتنديد بالعمل الإرهابي. وأصدر المجلس الإسلامي الدنماركي، بياناً منذ مساء السبت، يأمل فيه المجلس بأن يلقى القبض على المنفذ". وأكد أن "المجلس الإسلامي الدنماركي يعبّر عن تعاطفه مع أهالي الضحايا المدنيين ورجال الشرطة. فهذا العمل الإرهابي في الدنمارك عمل إجرامي مرفوض من كل الديانات السماوية". وطالب المجلس الإسلامي الدنماركي في بيانه "جميع مواطني الدنمارك بأن يقفوا جنباً إلى جنب في مواجهة التطرف والإرهاب، وبأن يحاسب المنفذون لهذه العمليات الإرهابية".

ولا تبدو حالة مسلمي الدنمارك أفضل حالاً من حال مسلمي فرنسا، بعد هجوم "شارلي إيبدو"، فحتى قبل الهجوم كان هناك شعور بالضغط من قبل اليمين المتشدد الذي يتهم المسلمين بعدم ولائهم للمجتمعات التي يقيمون فيها. ويأتي هذا الهجوم الجديد ليضع بحسب مراقبين ومختصين، المسلمين في البلدان الاسكندنافية تحت دائرة الضغط مجدداً، وخصوصا "أننا أمام عملية تعميم رهيبة يقوم بها الإعلام وبعض السياسيين" بحسب ما قال لـ"العربي الجديد" أحد أئمة مساجد مدينة آرهوس الذي رفض أن يكشف عن اسمه.

ويخشى المسلمون من تداعيات مثل هذه الأفعال على العرب عموماً، والمسلمين تحديداً، في عموم أوروبا، وخصوصاً "استلهام شباب غير مدرك لما يقوم به، مثل تلك العمليات، ليصيب بالضرر الجاليات".

وفي حديث مع شبان عرب في الدنمارك، أكد هؤلاء لـ"العربي الجديد" وجود مخاوف من أن يصبحوا جميعاً في دائرة الشبهة، بعد أن أذيع منذ اللحظة الأولى أن المهاجم بملامح عربية. وأشاروا إلى أن هذا الخطأ ارتكبته الشرطة، وعليها الآن أن تصحح الأمر، إذ تقول بعض التكهنات بأن الشاب ولد وكبر في الدنمارك، ولا يجوز وصفه وكأنه بملامح معينة. وهذا لا يقال حين يوصف مواطن عادي قام بفعل مخالف للقانون بحسب عرقه".