"سينما الواقع" تواجه احتلالا ورأسمالا

27 نوفمبر 2019
"عن الأرض والخبز": توثيق اليوميّ (الموقع الإلكتروني للمهرجان)
+ الخط -
يتجوّل البولندي الأميركي لِغ كوفالسكي في أوروبا ليصنع أفلام "أندرغراوند"، يفتخر بها، فهي تحتضن عيشه، مازجة إياه بحكاية أكبر وأوسع (كما يقول). الفلسطيني إيهاب طربيه، رئيس قسم الفيديو في منظمة "بيتسليم" (المركز الإسرائيلي للمعلومات المتعلّقة بحقوق الإنسان في الأراضي المحتلّة)، يُنجز فيلما عن الاعتداءات السافرة لجنود إسرائيليين بحقّ فلسطينيين (الأطفال تحديدا) في مناطق مختلفة من الضفّة الغربيّة. الأول يحمل الكاميرا ويُلاحق مواضيعه وناس المواضيع والمسائل؛ والثاني يتعاون مع متطوّعين يحملون كاميرات فيديو، ويستعين بكاميرات مراقبة موزّعة في شوارع ومداخل أبنية، كي يوثِّق، بالصورة والصوت، المواجهات اليومية بين فلسطينيين ومحتلّين.

المشترك بين On Va Tout Peter ("نحن جميعا ضرطة"، الترجمة الحرفية لتعبيرٍ بالعامية الفرنسية) لكوفالسكي و"عن الأرض والخبز" لطربيه كامنٌ في ثنائية القهر والقمع. فعمّال "ج.أم. وأس." (مصنع فرنسي لمعدّات السيارات) يواجهون تنانين المال والسلطة بحراك سلميّ، دفاعا عن حقوق مهدورة، بعد إغلاق المصنع وشرائه من قبل آخرين، في لعبة رأسمالية يتواطأ فيها أصحاب المال والقضاء والحكومة؛ والفلسطينيون يواجهون تنانين القتل والتنكيل والنهب التاريخي لفلسطين، مستندين إلى حقّ لن يُفرّطوا به، وإلى واقع يؤكّد ارتباطهم الوثيق بتلك الأرض وذاك البلد، واسمه فلسطين. وإذْ يمارَس على العمّال الفرنسيين أقصى أنواع التعذيب المعنوي، عبر إنكار الحقوق والتعالي على المطالب وانعدام كلّ حسّ إنساني أو أخلاقي إزاءهم، ولبعضهم 30 عاما من العمل في المصنع؛ فإنّ الإسرائيلي غير مُتردِّد عن استخدام العنف المادي المباشر، في صراعٍ يومي مع أطفال وشبابٍ.

المواجهات حامية. الرأسمال أقوى من الحقّ. القمع أيضا. يلجأ العمّال الفرنسيون إلى المنطق والعقل والعاطفة، لكن المال يُعمي بصرا وبصيرة، فيستخدم أصحابُه الجبروتَ كلّه الذي يصنعه المال لهم، لتحطيم كلّ إرادة حيّة، مستعينين بقوانين، لعلّ بعضها ساقطٌ في "ثغرات" تحمي الرساميل وناسها. ويلجأ الفلسطينيون إلى عيش حياتهم اليومية في تحدّ صارخٍ للإسرائيلي، جنديا ومستوطنا، بما يليق بصاحب حقّ غير مُتنازِلٍ عنه. الحراك العمّالي الفرنسي كافٍ للِغ كوفالسكي كي يلتقط فيه ومعه وحوله ما يُتيح له إنجاز فيلم واقعي، ينتمي إلى "سينما الحقيقة/ الواقع" إنْ يصحّ الوصف؛ تماما كما أنّ التفاصيل اليومية للمواجهات غير الهادئة وغير المنتهية بين الفلسطينيين والمحتلّين كافية لإيهاب طربيه والمتطوّعين لتوثيق فصول تلك النزاعات، المرتكزة على ثنائية الأرض والخبز.
الحدث الفرنسي عائدٌ إلى عام 2017، مع بدء الأزمة والمواجهة. "عن الأرض والخبز" ينطلق من مشروع عائد إلى عام 2007، مع إطلاق "بيتسليم" مشروع تصوير بالفيديو، يُشارك فيه متطوّعون فلسطينيون في الضفّة الغربيّة. لِغ كوفالسكي يتابع الحراك أشهرا طويلة، بينما "مشروع الفيديو" يستمرّ أكثر من عقدٍ من الزمن، يُصوِّر المتطوّعون خلاله "حيواتهم اليومية تحت الاحتلال الإسرائيلي والمستوطنين غير الشرعيين"، بحسب "جينيريك" بداية الفيلم.

كاميرا كوفالسكي تلتقط كلّ شيء، تماما كما تفعل كاميرات الفيديو الفلسطينية. الـ"فلترة" تأتي لاحقا، رغم أنّ المشاهد المتتالية للعمّال الفرنسيين في حراكهم تبدو كأنّها تستغني عن كلّ إضافة أو بلورة أو توليفٍ، فهي تمتلك حيويتها وتسلسلها من دون اشتغالٍ تقني آخر؛ ورغم هذا فإنّ للفيلم فريقا تقنيا متواضعا، كعادة صناعة أفلامٍ كهذه (تصوير كوفالسكي الذي يتعاون مع أوديل ألار في المونتاج. صوت: توماس فورّيل. موسيقى: سال برناردي). أشرطة فيديو المتطوّعين الفلسطينيين تتحوّل، في غرفة التوليف (طربيه نفسه) إلى فيلمٍ موزّع على فقرات معنونة، تلتقط حالات كثيرة من المواجهات الدائمة، ما يجعل "عن الأرض والخبز" شهادة وثائقية مشغولة بحرفيةٍ، تكتفي بنقل الوقائع من دون اشتغالات سينمائيّة كثيرة.

لن يكون عابرا اختيار "عن الأرض والخبز" لعرضه العالمي الأول في برنامج "الضوء الأمامي، التركيز: لا يزال يؤلم"، في الدورة الـ32 (20 نوفمبر/ تشرين الثاني ـ 1 كانون الأول 2019) لـ"مهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية". فالمضمون البصري ـ المحمَّل بسلوكٍ وتناقضات ونزاعات، في التاريخ والعلاقة بالله (يُصرّ مستوطنون على أنّ الأرض ممنوحة لهم من الله، في تكرار مملّ لجمل يردّدونها بصفاقة وتعالٍ) والثقافة والتربية ـ يعكس وحشية إسرائيليّ غير آبه بحقّ غير ذاك الذي يظنّه حقا له في الأرض والخبز؛ ويُوثِّق براعة الفلسطينيّ في الإمساك، غالبا، ببعض قواعد النزاع اليومي على الأقل، بمنطق ووعي أحيانا، وبسخرية غالبا. أما فيلم لِغ كوفالسكي، فمعروض في برنامج Masters، في الدورة نفسها لـ"مهرجان أمستردام"، بعد أسابيع على عرضه العالميّ الأول في مسابقة "نصف شهر المخرجين الـ52"، في الدورة الـ72 (14 ـ 25 مايو/ أيار 2019) لمهرجان "كانّ".
دلالات
المساهمون