19 سبتمبر 2022
"سايكس بيكو" بعد مائة عام
أعادت القوى الأوروبية، قبل قرن، رسم خطوط بلاد الشام والعراق، وفقاً لاحتياجاتها الخاصة، وضرورات العالم الذي كانت تحكمه. ذهبت تلك "القوى الاستعمارية"، ولكن، لا تزال هناك خريطة أو مجموعة خرائط تركتها لنا نحن العرب، جنباً إلى جنب مع المفارقة المخجلة لكياناتٍ سياسيةٍ يجمعها إرث تاريخ واحد، ولكن تفرقها جغرافية وحدود ونزاعات سياسية وأيديولوجية لا تكاد تنتهي حتى تبدأ من جديد: إنها الطريقة التي وجدها الأوروبيون الأفضل لضبط حدودٍ رسمت لمجموعة دولٍ، كانت سابقاً مجموعة أقاليم (= ولايات) اقتطعت من الإمبراطورية العثمانية، فبقيت سنواتٍ تحت احتلالات الإنجليز والفرنسيين وانتداباتهما، ومن ثم تستقل بأنظمةٍ سياسية متنوعة.. وبعد مائة سنة من ذلك التاريخ، بدأت تحرق نفسها وتدمّر ذاتها بيديها، لأسبابٍ وعوامل طائفية وسلطوية وسطوة أنظمة دكتاتورية، استمر بعضها أكثر من أربعين سنة، مع هيمنة قوى خارجية جديدة.
قامت اتفاقية سايكس بيكو بعد التوقيع عليها يوم 15 مايو/ أيار عام 1916، وقد نصّت على اتفاق وتفاهمٍ سريٍّ بين فرنسا وبريطانيا، بمصادقةٍ من الإمبراطورية الروسية، على اقتسام النفوذ لمنطقة الهلال الخصيب بين قوتين عظميين وقت ذاك، فرنسا وبريطانيا. ولتحديد مناطق النفوذ في عموم غرب آسيا إبّان الحرب العالمية الأولى، وخصوصاً بعد الضعف الذي حاق بالدولة العثمانية التي كانت تسيطر على هذه المنطقة. وقد تم التوصل إلى هذه الاتفاقية، إثر مداولاتٍ سياسيةٍ سريةٍ، استغرقت زهاء ستة أشهر بين نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1915 ومايو/ أيار عام 1916، وقد تخللتها مفاوضات سرية بين الدبلوماسي الفرنسي، فرانسوا جورج بيكو، والبريطاني، مارك سايكس، كما تبودلت وثائق تفاهم بين وزارات خارجية فرنسا وبريطانيا وروسيا القيصرية آنذاك. وقد تم الكشف عن ذلك الاتفاق، إثر وصول الشيوعيين إلى سدة الحكم في روسيا عام 1917، فافتضح أمرها، ما أثار غضب الشعوب التي تمسها الاتفاقية، وأحرج موقفي فرنسا وبريطانيا.
السؤال: ما هي الأهداف المحورية التي كانت تريدها كل من لندن وباريس من عقد اتفاقية سايكس بيكو التي أدت قبل مائة عام إلى تقسيم الشرق الأوسط بين الطرفين؟ حتى تلك اللحظة التاريخية، كانت الإمبراطورية العثمانية هي المسيطرة الفعلية على تلك المنطقة، باستثناء جنوب العراق الذي وقع تحت السيطرة البريطانية. وكانت باريس ولندن تؤمنان إيماناً حقيقياً بأن الإمبراطورية العثمانية انتهت، وإنها مهزومة لا محالة. وبالتوصل إلى تفاهم سايكس- بيكو، كان الهدف هو العمل على تفادي وقوع نزاعاتٍ محتملةٍ، بعد كسب الحرب العالمية الأولى، وتوزيع غنيمتها بين المنتصرين. وكانت هناك قد استجدّت، لاحقاً، خلافات كبيرة بين فرنسا وبريطانيا حول الرسم الدقيق للحدود، وبالتالي، كانت تلك الاتفاقية فقط محاولة أولى للتقسيم الذي تجسّد فيما بعد بشكل آخر. ومن يتأمل في ذلك الرسم الذي أخرجته اتفاقية سايكس – بيكو، سيجده بليداً وغبياً، ولا يتطابق أبداً، مع الإرث التاريخي للأقاليم الإدارية العثمانية التي عاشت قرابة أربعة قرون. ولكن، هل لم يزل ذلك الاتفاق يثير المشاعر في عالمنا العربي، حتى بعد مرور 100 عام. ولماذا؟
ينظر العرب إلى الاتفاقية نظرة سيئة للغاية، كونها شكلت رمزاً للنظام الجديد المعقد والمتشعب
في تلك المنطقة، بعد الحرب العالمية الأولى. وبدت تلك الخطوط وكأنها السكين قد رسمتها بلا وجه حق. ولكن، بدا واضحاً أن هناك سلسلة من الاتفاقيات والمعاهدات سيئة النيات. وتركز هذه السطور، هنا، على " إعلان بلفور" في نوفمبر/ تشرين الثاني 1917 الذي وعد فيه وزير الخارجية البريطاني، أرثر جيمس بلفور، اليهود بإقامة وطن قومي لهم على أرض فلسطين، أو ما جرى كذلك من مراسلات بين الشريف حسين والمفوض البريطاني السامي في مصر السير هنري مكماهون، وطريقة الخداع التي مارستها بريطانيا بالوعود التي قالت بها للشريف عن ضرورة تأسيس مملكة عربية مستقلة، تمتد من جبال طوروس شمالاً إلى اليمن جنوباً، ومن العراق شرقاً إلى البحر المتوسط غرباً. شكلت هذه الاتفاقيات نوعاً من المخادعة، من أجل تنفيذ مخططات ووعود تمّ الإعلان عنها، في مؤتمر فرساي عام 1919، أو ما تلاه من مؤتمراتٍ، مثل سيفر وسانت ريمو. ولكن، لم يكن بيد العرب أن يفعلوا شيئاً إزاء تلك المخططات، على الرغم من الكشف عن فضيحة سايكس بيكو التي ارتبطت بتاريخ الكشف عنها، فبعد الثورة البلشفية في روسيا، نشر المفوض السابق للشؤون الخارجية، ليو تروتسكي، مباشرة محتوى تلك الاتفاقية، مثالاً واضحاً على غدر القوى الكبرى ومطامعها الإمبريالية. وأوضحت الخريطة المرتبطة بالاتفاقية مدى الجشع الذي عبرت عنه رسوم التفكير الإمبريالي، إذ لا يمكن للأسوياء أن يتخيلوا كيف يتم فرض حدود بمئات الكيلومترات، تبدأ من حيفا، وتنتهي إلى كركوك. اتضح للمؤرخ العربي أن هناك في العالم العربي ما يشير، عبر التاريخ الطويل، إلى تآمر الغرب على المشرق بسرية تامة، وكشف ما تحقق لاحقاً بوضوح كم جرت من مؤامراتٍ على الشعوب العربية، وعلى حقوقها، وشعوبٍ أخرى تجاورها، أو تشترك معها في المصير نفسه.
إذن، تدخل اتفاقية سايكس بيكو في قالب هذا النوع من نظريات المؤامرة وتطبيقاتها، حيث أنها كانت سرية، وتخدم فقط مصالح القوى الكبرى. ومع أن الاتفاقية لم تطبّق أبداً ببنودها، إلا أنها زرعت النقمة في قلوب العرب ضد الغربيين عموماً، بدءاً بنشر الفضيحة التاريخية، وانتهاءً عند تفجير إرهابيي تنظيم داعش قبل أكثر من سنتين مركز مراقبة حدودي بين العراق وسورية، في بهرجةٍ تشير إلى نهاية اتفاقية سايكس بيكو، من دون أن يعلموا أن الاتفاقية لم تطبق. وأعتقد أن الحدود الحالية بين سورية والعراق، مثلاً، تشكلت ضمن اتفاقياتٍ أخرى بصفة نهائية، ضمن الانتداب البريطاني الفرنسي الذي أقيم هناك نهاية العشرينيات، وهي علامات غدت تاريخيةً للدولة الوطنية بين البلدين اللذين كانت لهما فرص تاريخية وسلمية عديدة، لتوحدهما على عهود الاستقلال والحزب الواحد، لكنهما لم يتوّحدا لعوامل داخلية معقدة، لم يدركها الدارسون بعد.
وعليه، للعرب، حتى يومنا هذا، تلك الرمزية المبدئية التي ما زالت تأتي بمفعولها. إذ هناك رفض كبير لدى المواطنين العرب للتاريخ الطويل الذي مارسه التأثير الغربي في الشرق الأوسط، ناهيكم عن نقمة قومياتٍ أخرى ضد البريطانيين والفرنسيين، كونهم لم يأخذوا حقوقهم القومية في محيط عربي واسع. يرى العرب بالذات وجود أسبابٍ عديدة، أدت إلى مأزق هذا الوضع الكارثي الراهن في السياسة الغربية، والتي تجلت بقوة بعد الحرب العالمية الأولى. واليوم، أعتقد أن الواقع يتحدّث لغة أخرى، اذ لو سألنا أي لبناني أو أردني عن مدى رغبته في أن يكون سورياً أو عراقياً في إطار سورية الكبرى، أو سوراقيا العظمى، فإن الغالبية الساحقة سترفض ذلك نهائياً. وهكذا، لن يتنازل أي عراقي عن عراقيته، ولا أي فلسطيني عن فلسطينيته، فكلها أوطان قديمة، عرفها آباؤنا وأجدادنا منذ آلاف السنين.
وعليه، ما هو الدور الذي لعبته اتفاقية سايكس بيكو بالنسبة للإسلام السياسي؟ تعد الاتفاقية لبنة أساسية لقوة الغرب، ولتدخله المباشر في شؤون منطقتنا العربية، وخصوصاً الهلال الخصيب في بلاد الشام والعراق. إذ احتلت "سايكس بيكو" الآن الصدارة في الاهتمامات التاريخية والسياسية، لأنه باحتلال العراق عام 2003 ونشوب الثورة في سورية منذ عام 2011، باتت المنطقة غير مستقرة، والتي كانت ترسم حدودها تلك الاتفاقية المجحفة. وستبقى "سايكس بيكو" في الذاكرة العربية، كونها رسمت، منذ مئة سنة مرت على شعوبنا، أسوأ الخطوط التقسيمية، ليس من أجل مصالحنا المصيرية، بل من أجل مصالح الآخرين.
قامت اتفاقية سايكس بيكو بعد التوقيع عليها يوم 15 مايو/ أيار عام 1916، وقد نصّت على اتفاق وتفاهمٍ سريٍّ بين فرنسا وبريطانيا، بمصادقةٍ من الإمبراطورية الروسية، على اقتسام النفوذ لمنطقة الهلال الخصيب بين قوتين عظميين وقت ذاك، فرنسا وبريطانيا. ولتحديد مناطق النفوذ في عموم غرب آسيا إبّان الحرب العالمية الأولى، وخصوصاً بعد الضعف الذي حاق بالدولة العثمانية التي كانت تسيطر على هذه المنطقة. وقد تم التوصل إلى هذه الاتفاقية، إثر مداولاتٍ سياسيةٍ سريةٍ، استغرقت زهاء ستة أشهر بين نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1915 ومايو/ أيار عام 1916، وقد تخللتها مفاوضات سرية بين الدبلوماسي الفرنسي، فرانسوا جورج بيكو، والبريطاني، مارك سايكس، كما تبودلت وثائق تفاهم بين وزارات خارجية فرنسا وبريطانيا وروسيا القيصرية آنذاك. وقد تم الكشف عن ذلك الاتفاق، إثر وصول الشيوعيين إلى سدة الحكم في روسيا عام 1917، فافتضح أمرها، ما أثار غضب الشعوب التي تمسها الاتفاقية، وأحرج موقفي فرنسا وبريطانيا.
السؤال: ما هي الأهداف المحورية التي كانت تريدها كل من لندن وباريس من عقد اتفاقية سايكس بيكو التي أدت قبل مائة عام إلى تقسيم الشرق الأوسط بين الطرفين؟ حتى تلك اللحظة التاريخية، كانت الإمبراطورية العثمانية هي المسيطرة الفعلية على تلك المنطقة، باستثناء جنوب العراق الذي وقع تحت السيطرة البريطانية. وكانت باريس ولندن تؤمنان إيماناً حقيقياً بأن الإمبراطورية العثمانية انتهت، وإنها مهزومة لا محالة. وبالتوصل إلى تفاهم سايكس- بيكو، كان الهدف هو العمل على تفادي وقوع نزاعاتٍ محتملةٍ، بعد كسب الحرب العالمية الأولى، وتوزيع غنيمتها بين المنتصرين. وكانت هناك قد استجدّت، لاحقاً، خلافات كبيرة بين فرنسا وبريطانيا حول الرسم الدقيق للحدود، وبالتالي، كانت تلك الاتفاقية فقط محاولة أولى للتقسيم الذي تجسّد فيما بعد بشكل آخر. ومن يتأمل في ذلك الرسم الذي أخرجته اتفاقية سايكس – بيكو، سيجده بليداً وغبياً، ولا يتطابق أبداً، مع الإرث التاريخي للأقاليم الإدارية العثمانية التي عاشت قرابة أربعة قرون. ولكن، هل لم يزل ذلك الاتفاق يثير المشاعر في عالمنا العربي، حتى بعد مرور 100 عام. ولماذا؟
ينظر العرب إلى الاتفاقية نظرة سيئة للغاية، كونها شكلت رمزاً للنظام الجديد المعقد والمتشعب
إذن، تدخل اتفاقية سايكس بيكو في قالب هذا النوع من نظريات المؤامرة وتطبيقاتها، حيث أنها كانت سرية، وتخدم فقط مصالح القوى الكبرى. ومع أن الاتفاقية لم تطبّق أبداً ببنودها، إلا أنها زرعت النقمة في قلوب العرب ضد الغربيين عموماً، بدءاً بنشر الفضيحة التاريخية، وانتهاءً عند تفجير إرهابيي تنظيم داعش قبل أكثر من سنتين مركز مراقبة حدودي بين العراق وسورية، في بهرجةٍ تشير إلى نهاية اتفاقية سايكس بيكو، من دون أن يعلموا أن الاتفاقية لم تطبق. وأعتقد أن الحدود الحالية بين سورية والعراق، مثلاً، تشكلت ضمن اتفاقياتٍ أخرى بصفة نهائية، ضمن الانتداب البريطاني الفرنسي الذي أقيم هناك نهاية العشرينيات، وهي علامات غدت تاريخيةً للدولة الوطنية بين البلدين اللذين كانت لهما فرص تاريخية وسلمية عديدة، لتوحدهما على عهود الاستقلال والحزب الواحد، لكنهما لم يتوّحدا لعوامل داخلية معقدة، لم يدركها الدارسون بعد.
وعليه، للعرب، حتى يومنا هذا، تلك الرمزية المبدئية التي ما زالت تأتي بمفعولها. إذ هناك رفض كبير لدى المواطنين العرب للتاريخ الطويل الذي مارسه التأثير الغربي في الشرق الأوسط، ناهيكم عن نقمة قومياتٍ أخرى ضد البريطانيين والفرنسيين، كونهم لم يأخذوا حقوقهم القومية في محيط عربي واسع. يرى العرب بالذات وجود أسبابٍ عديدة، أدت إلى مأزق هذا الوضع الكارثي الراهن في السياسة الغربية، والتي تجلت بقوة بعد الحرب العالمية الأولى. واليوم، أعتقد أن الواقع يتحدّث لغة أخرى، اذ لو سألنا أي لبناني أو أردني عن مدى رغبته في أن يكون سورياً أو عراقياً في إطار سورية الكبرى، أو سوراقيا العظمى، فإن الغالبية الساحقة سترفض ذلك نهائياً. وهكذا، لن يتنازل أي عراقي عن عراقيته، ولا أي فلسطيني عن فلسطينيته، فكلها أوطان قديمة، عرفها آباؤنا وأجدادنا منذ آلاف السنين.
وعليه، ما هو الدور الذي لعبته اتفاقية سايكس بيكو بالنسبة للإسلام السياسي؟ تعد الاتفاقية لبنة أساسية لقوة الغرب، ولتدخله المباشر في شؤون منطقتنا العربية، وخصوصاً الهلال الخصيب في بلاد الشام والعراق. إذ احتلت "سايكس بيكو" الآن الصدارة في الاهتمامات التاريخية والسياسية، لأنه باحتلال العراق عام 2003 ونشوب الثورة في سورية منذ عام 2011، باتت المنطقة غير مستقرة، والتي كانت ترسم حدودها تلك الاتفاقية المجحفة. وستبقى "سايكس بيكو" في الذاكرة العربية، كونها رسمت، منذ مئة سنة مرت على شعوبنا، أسوأ الخطوط التقسيمية، ليس من أجل مصالحنا المصيرية، بل من أجل مصالح الآخرين.