تمثالٌ يحمل تاريخًا، وحاضره يعكس تبدّلًا في أحوال بلدٍ واجتماع وثقافة وعيش. للسياسة حضورٌ، فالتمثال امتدادٌ لأهواء زعماء يحكمون البلد ويتحكّمون بناسه، منذ انقلاب ضباط على الحكم الملكي (23 يوليو/ تموز 1952). التمثال تاريخٌ حافلٌ بحكايات وتفاصيل، يصلح بعضها (على الأقلّ) لدرسٍ أو نموذج أو مثال، فالشخص المُمثَّل بالتمثال قائدٌ عسكري فرعونيّ، له انتصارات وفضائل على شعبه وبلده. التمثال نفسه يسحر فتى في بداية وعيه، فهو (التمثال) واقفٌ في ميدانٍ يحمل اسمه، في محيط منزل عائلة الفتى، ما يدفع الأخير، لاحقًا، إلى إعادة قراءة ما يُحيط بالتمثال من أحوال ومسارات، وما يُقدِّمه التمثال من عِبر ولحظات، تُوثِّق شيئًا من تحوّلات البلد ومفاصل حُكمه، وتُعرّي بعض المخفيّ أيضًا.
المخرج الوثائقي المصري عمرو بيومي يستعين بتمثال رمسيس الثاني، ليحاور ذاكرةً وتاريخًا وراهنًا، وليقرأ مسارات وأقدارًا، بدءًا من ذاته وذكرياته وعلاقته بوالده تحديدًا. في جديده "رمسيس راح فين؟" (2019، 62 دقيقة، إنتاج "رحّالة للإنتاج والتوزيع" وعمرو بيومي وناجي إسماعيل، بدعم من "صندوق دوكس بوكس" و"جمعية النهضة العلمية والثقافية ـ جيزويت" في القاهرة)، يمزج بين عمق الذاتيّ ورحابة العام، في متتالياتٍ بصرية، تستعين بأرشيفٍ ثريّ من صُوَر ورسوم وأشرطة، ويرتكز على تصوير لحظات آنيّة، توغل في حميمية الذات الفردية لبيومي، كامتدادٍ لسيرة تمثال وذاكرة وتاريخ.
يجعل عمرو بيومي "تمثاله" مناخًا وحالة ووقائع. بصوتٍ ذي نبرة هادئة وسلسة، يُروَى ما يُضيف إلى صُوَره، ويقال ما يُساهِم في تفكيك سيرة وماضٍ، فالتفكيك دعوة إلى مُصالحة بعد تعرية واغتسال، والإضافة جزءٌ من لعبة أزمنة وأمكنة، يتداخل بعضها بالبعض الآخر، في توليفٍ (أسامة الورداني) يُشكِّل عصب الفيلم وبناءه الدرامي والحكائي. التداخل بين أزمنة وأمكنة مرادفٌ لتداخلٍ بين ذات عمرو بيومي وعلاقته بأبيه ومحيطه وبيئته، مُشاهدًا وشاهدًا على تبدّلات جذرية في مسار عام، كما في مساره هو، المنتقل به من مراهقة إلى شبابٍ (بيومي مولود عام 1961). كأنْ لا حدود تفصل بين الأشياء والحالات والانفعالات. كأنّ عمرو بيومي نفسه يختفي في تاريخٍ وذاكرة وهو يروي حكايته، ثم يختبئ في ذاته وحكايته كي يتحررّ من ثقل موروثاتٍ خاصّة وعامّة، فيرويها بسلاسةٍ أكبر وبساطةٍ أجمل وحميميةٍ أصدق. كأنّ "رمسيس راح فين؟"، الفيلم والسؤال معًا، اختبارٌ بصريّ لفهم ذاتٍ وبلدٍ وتاريخٍ وحاضر، بالتزامن مع لعبة التنقّل بين أوقاتٍ وبيئات.
ينتقل التمثال، أكثر من مرة، بين موقعه الأصلي في قرية "ميت رهينة" (بعد اكتشاف أطلال "مدينة ممفيس" في باطن القرية، بين عامي 1890 و1930) والميدان الحامل اسمه قبل تغيير الاسم إثر "عودته" إلى قريته. يتساءل بيومي عن اللحظة الأولى لتأثّره الذاتي بالتمثال: أهي تلك المنبثقة من مُشاهدته، للمرة الأولى، "باب الحديد" (1958) ليوسف شاهين (يُدخل لقطة تجمع شاهين بهند رستم، والتمثال خلفهما)، أم تلك المتأتية من شريط قديم، يتساءل فيه أطفالٌ: "رمسيس راح فين"، قبل أن يتبيّن لاحقًا أنّ الشريطَ إعلانيٌّ، وأن الدعاية خاصّة بـ"آيس كريم مصر"؟
تساؤل يحتمل إسقاطاتٍ، تكشف لاوعيًا جمعيًّا، إذْ يتعرّض التمثال لاستهلاكٍ تجاريّ، ولمادة صالحة للتندّر والتنكيت والرسوم الكاريكاتورية، المترافقة كلّها وهوس الحديث عنه، ذات محطة تاريخية.
لـ"ميدان باب الحديد" حكايته أيضًا، فـ"ثورة 1919" تمتلك فيه حيّزًا لذكراها، مثبّتٌ حينها بتمثال "نهضة مصر". الهوس بالتاريخ العسكري الفرعوني، والرغبة في إقصاء كلّ ثورة سابقة على "ثورة يوليو"، دافعان إلى إزالة "نهضة مصر" إكرامًا لرمسيس الثاني. يُروى في الفيلم أنّ الأمر الصادر حينها بنقل التمثال يحمل ضمنيًا أمرًا بـ"إخلاء الميدان من تمثال ثورة 1919، ليحلّ محله تمثال ثورة يوليو 1952"، فيتغيّر الاسم أيضًا من "نهضة مصر" إلى "رمسيس".
هذه لن تكون تفاصيل عابرة. حاكمو مصر لاحقًا يُقرّرون إزالة تمثال رمسيس الثاني من مكانه، بحجّة ترميمه في المتحف الوطني (25 أغسطس/ آب 2006). متخصّصون يظهرون أمام كاميرا عمرو بيومي (عبد الغفار شديد، أستاذ تاريخ الفن؛ والمؤرّخ عماد أبو غازي؛ والمهندس أحمد حسين، مُصمِّم آلية نقل التمثال والمُشرف على عملية النقل) يقولون، ضمنًا أو مباشرة، نقيض هذا، أو شيئًا مكمِّلًا له مع إيضاحات علمية. تغيير معالم المدينة (القاهرة) برمّتها مؤثّر سلبيّ على "ميدان رمسيس". الخطط العمرانية وهندسة الطرقات والجسور في الميدان نفسه تفرض إزالة التمثال. للسياسة وصراعاتها دور. لكنّ للبيئة تأثيرًا أيضًا، فالتلوّث مُضرّ بالتمثال، وبالناس أولاً، ومنذ سبعينيات القرن الـ20، "يفقد التمثال أشياء منه".
للوثائقيّ الجديد لعمرو بيومي ميزات، إحداها كامنةٌ في قدرة بصرية جميلة على التوفيق بين كمّ هائل من المعطيات التاريخية، وأولوية الاشتغال الوثائقي السينمائي. في معطيات التاريخ، سياسة ونزاعات وتحدّيات وتسلّط ومناكفات ووقائع ومعلومات ومرويّات. هذه حاضرة بسلاسة في سرد الحكاية. في اشتغالات السينما، يتكامل الأرشيف بالراهن والصُوَر بالسرديات، فتتداخل هذه كلّها معًا، صانعةً بناءً متماسكًا ومكثّفًا في سرد الحكاية. أما الثورات، فحاضرةٌ بأشكالٍ مختلفة، لأن "ميدان رمسيس" شاهدٌ على مظاهراتٍ شعبيّة ضد رفع الأسعار زمن أنور السادات (18 يناير/ كانون الثاني 1977)، وامتدادٌ طبيعي لغليان "ميدان التحرير"، زمن "ثورة 25 يناير" (2011).
ميزة أخرى يتمتّع بها "رمسيس راح فين؟": الحكاية الذاتية البحتة صائبةٌ في تمدّدها في طيات تاريخ وذاكرة وتفاصيل وتحدّيات. هي جزءٌ من بناء درامي سينمائي، ومن لعبة مرايا تُعرّي أهواء وأمزجة ووقائع. سلاسة السرد التاريخي منبثقة من حميمية القول الذاتيّ. صُوَر الأرشيف إضاءة مطلوبة لفهم راهن وتبيان ملامحه. لحظات الآنيّ امتدادٌ لنبضِ ماضٍ مُقيم في أمكنةٍ ومناخ.
الأهمّ أيضًا أن يُشَاهد التاريخ كحكاية، وأن تُقرأ الذات كاعترافٍ وبوح، وأن تكون السينما توثيقًا يمتلك شفافية صورة وجمالية اشتغال. هذا ما يفعله عمرو بيومي في "رمسيس راح فين؟" (جائزة أفضل فيلم في مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة، الدورة الـ21 لـ"مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة"، المُقامة بين 10 و16 إبريل/ نيسان 2019).