"رقصة" تختتم الحوار السوداني

20 أكتوبر 2016

الحوار السوداني ينتهي بأن يرقص البشير وحيدا (11/10/2016/فرانس برس)

+ الخط -
بلغ الحوار الوطني في السودان نهايته. عام من "حوار الطرشان"، كما سمته قوى معارضة رئيسية قاطعته منذ انطلاقته، وطالبت وقتها بتوفر متطلبات حوار حقيقي ناجح، يفضي إلى نهاية الحكم الحالي، وفتح صفحةٍ جديدةٍ في الحياة السياسية السودانية. قوام هذه المطالبات إطلاق الحريات العامة، ووقف الحروب الحالية على ثلاث جبهات داخلية، ومشاركة القوى السياسية كافة في وضع أسس ذلك الحوار لضمان نجاحه. قابل الحزب الحاكم تلك المطالب اللازمة لإطلاق حوارٍ ناجح، ومضى في ما سماه الحوار بمن حضر. وحينما بلغ قطار الحوار محطته النهائية في العاشر من أكتوبر/ تشرين أول الجاري، لم يجد في استقباله غير كم هائل من السخرية الشعبية غير المسبوقة إطلاقاً في الحياة السياسية السودانية، فقد استقبلت قطاعاتٌ كبيرةٌ من الشعب السوداني قطار الحوار ومخرجاته، عبر وسائط التواصل الاجتماعي، بكم هائل من النكات والضحكات والرسوم الساخرة، وهذا، في حد ذاته، الرد الشعبي البليغ على المخرجات.
من يتأمل في الواقع الذي أحاط بصدور مخرجات الحوار، وبعيداً عن الصياغات التي انتهت إليها الوثيقة، يجد أن الفطنة والحنكة الشعبية كانت سباقةً، ومنذ وقت مبكر، للوصول إلى أن ما يجري في القاعات خواء لا حوار وبلا جدوى . يبرع رجل الشارع السوداني العادي في قراءة المقدّمات، وبذاكرة التجارب السابقة، قفز إلى النهايات، ليقول إنه لا فرق بين أحمد وحاج أحمد. بل قراءة الإنسان السوداني واقعه السياسي أكثر تقدّماً، من حيث إدراكه طبيعة المخاطر
التي تحيق به من الممثلين الذين وجدوا داخل أروقة الحوار الرسمي. ومنذ وقت مبكر، أدرك الشارع أن لا شيء قد تغير، بل لا شيء يوحي بتغير قريب. ولهذا، استبقت مخرجات الحوار عدة مؤشراتٍ ذات أهمية، أسهمت في جعل الحوار بمخرجاته تكاد تكون بلا معنى. أهمها فشل الحوار بين الحكومة وقوى "نداء السودان" في أديس أبابا، والتي جرت تحت مظلة (ومباركة) الآلية الدولية الرفيعة للحوار، برئاسة رئيس جنوب أفريقيا السابق، ثامبو أمبيكي، والذي أعلن تعليقها إلى أجلٍ غير مسمى. كذلك، وعشية الانتهاء وإعلان مخرجات الحوار، كانت المسيرات التي نظمها السودانيون تجوب عواصم أوروبية، تندّد بما رشح من اتهاماتٍ بأن الحكومة استخدمت أسلحة كيماوية في دارفور.
وتزامناً مع هذا التنديد الخارجي، شهد السودان حدثاً فريداً، لم تعرف له البلاد مثيلاً منذ انقلاب الإنقاذ في 1989، فقد نفذ الأطباء في جميع السودان إضراباً عاماً احتجاجاً على تردّي الخدمات الصحية إلى درجةٍ باتت تهدد بانهيار المنظومة الصحية بشكل تام في البلاد، وإن كان الإضراب قد نجح في شيء واحد، فهو أنه، وبذلك التضامن الكبير الذي وجده من المهن الأخرى في البلاد، قد فتح الباب لتشكل جسد لحراك نقابي مطلبي حقيقي موازٍ للجسد النقابي الرسمي المحتكر بالكامل من الحزب الحاكم.
بصورة أخرى، لم تتوقف الحروب على جبهاتها الثلاث، بل اتسعت وتنوع السلاح الفتاك الذي استخدمته الحكومة، وتستمر المطالبة الدولية للتحقيق بشأنه. وإذا أضفنا، إلى هذا المشهد، الوضع الاقتصادي الذي يزداد قتامة، وهو ما أكّد على درجة السوء التي بلغها صراحةً رئيس الجمهورية عمر البشير بنفسه، في مقابلة تلفزيونيةٍ الأسبوع الماضي، إذ قال إنه يستغل وقت فراغه، ليزيد من دخله بالزراعة، وقال إن دخله لا يكفيه. وسواء قصد أم لم يقصد، فإنه حديثه هذا بالغ الدلالة على تردّي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في السودان.
أحد أهم المخرجات المطلوبة من الحوار وقف الحرب أبعد ما يكون عن التحقق، والخروج من
الأزمة الاقتصادية التي يعاني من ويلاتها الشعب أبعد ما تكون عن اهتمامات المتحاورين. وبالتمعن في المخرجات التي تنتظر التنفيذ، لا شيء يبشر بتغيرٍ في ملامح نمط الحكم القائمة. فقد أغلق الباب أمام إمكانية قيام حكومة انتقالية، مرحلة عبور إلى ما بعد الحوار، ما يسمح بتداول سلمي للسلطة بين القوى السياسية، وبقي جوهر النظام الشمولي على حاله، ويظل الرئيس قابضاً على مفاصل الحكم، مع وجود رئيس وزراء يعينه الرئيس ويقيله متى شاء، من دون المرور حتى على البرلمان. وبقيت صورة الحريات على حالها، ولم يطرأ جديد على الحريات العامة، وتظل الأحزاب أسيرة دورها فقط، وبقيت الصحف عند هامش الحرية المحكم
أخيراً، سجل الاحتفال الذي نظمته الحكومة السودانية، بمناسبة صدور مخرجات الحوار الوطني، وحضره رؤساء دولٍ في الجوار، غياباً لافتاً لثابو إمبيكي الذي اعتذر عن الحضور، وهو الذي يرأس الآلية الرفيعة للحوار السوداني، كما غاب أي ممثل للأمين العام للأمم المتحدة، كما أن غياب رئاسة الاتحاد الأفريقي تترك أكثر من سؤال كبير. وإذا وضعنا في الاعتبار أن هذه الأطراف هي التي دعت إلى الحوار الشامل، وباركت قيامه، فإنه يمكن الوصول إلى نتيجةٍ مفادها أن الحوار الوطني جاء خارجاً عن النص الدولي المطلوب، فشرط الحوار دولياً أن يكون شاملاً بمشاركة كل القوى السياسية، وشاملاً أيضاً، في مخاطبة كل أزمات البلاد السياسية والاقتصادية، وإرساء خريطة طريق للاستقرار والسلام المستدام في السودان. وإذا جاز الخروج بنتيجة من الحوار الوطني، فإنه كرّس حكم الفرد الذي استمر منذ الانقلاب العسكري عام 1989، وزاد عليه الرئيس البشير بتوعّده المعارضة بالتعقب والعقاب. وخلاصة القول، إن محصلة عامٍ من الحوار الأحادي هي احتفال اضطر فيه الرئيس السوداني إلى الرقص وحيداً. والمفارقة أن رقصته المنفردة على مسرح فسيح أعد لرجل واحد لخصت، وبدقة، حالة الوضع السياسي المأزوم الذي يعيشه السودان، فبرقصته منفرداً يقول الرئيس، إن المسرح السياسي في السودان لم يتهيأ بعد لمشاركة آخرين، ولو في رقصة بائسة.
دلالات
0CD72F94-2857-4257-B30C-7F645EA599D7
طارق الشيخ

كاتب وصحفي سوداني، دكتوراة من جامعة صوفيا، نشر مقالات وموضوعات صجفية عديدة في الصحافة العربية، يعمل في صحيفة الراية القطرية، عمل سابقاً رئيس تحرير ل "الميدان" الرياضي السودانية.