يُعرَف عن وودي آلن (1935) أنه لا يُعطي ممثّليه نصوص أفلامه كاملةً. يبقى كلّ منهم مع شخصيته دون دراية شاملة بأحداث العمل. وإلى الآن، تحافظ شخصياته على تلقائيتها وغرائبيتها، وتظهر وكأنها غريبة عن نفسها.
في فيلمه الجديد "رجل غير عقلاني" (2015)، يؤدّي واكين فينيكس دور أستاذ زائر إلى جامعةٍ في بلدة أميركية صغيرة، هو شخصٌ عدمي وفاقد لمتعة الحياة، لكن سمعته تسبقه إلى البلدة بسبب مقالاته الراديكالية وآرائه المتفرّدة. بالصدفة، يسمع حديث أمّ مقهورة عن قاضٍ سيحكم عليها ظلماً بانتزاع حضانة ابنها منها، يركّز أكثر، فيسمعها تتمنّى الموت للقاضي.
يقرّر البروفسور أن يقتل القاضي، كي يخلّص المرأة والبشرية من شرّه. يخطّط لجريمة كاملة لن يشكّ أحدٌ بتورّطه فيها، لكونه غريباً عن البلدة. ستصبح حياته ذات قيمة عندما حدّد هدفاً، فبعد أن كان يشعر أنه يعيش بلا سبب، أصبحت مهمّة إنهاء حياة إنسان لتخليص آخر أمراً يستحق الحياة، ودافعاً لتلمّس معناها.
لكن، ومن ضمن قناعات البروفيسور، أن الحياة مبنيّة على الصدفة (أفلام آلن مليئة بالصدف)، ولهذا يمكن لأي أمر أن يحدث في حياة أستاذ الفلسفة الذي يعتقد أن عدميته كفيلة بشرعنة القتل وتخليص شخص ما من الظلم، أمّا الصدفة، فهي الوحيدة التي ستنقذ العالَم من عدميته وحلوله المميتة.
لا يبدي البروفسور أي شعور بالذنب، كما هو حال راسكولنيكوف، بطل "الجريمة والعقاب" لـ دوستويفسكي، الرواية التي يعكف على قراءتها في الفيلم. من أين تأتي المرأة بالعدالة إن كان من يبتزّها هو رأس القانون؟ وهل يحقّ له قتل القاضي؟ وهل بمقدور من قتل مرّة ألا يستسهل القتل في المرّة الثانية؟ تستمرّ الأسئلة الأخلاقية والنفسية، خصوصاً أن متّهماً بريئاً سيُحكَم عليه في القضية.
تتصاعد الشكوك حول البروفيسور، فمزاجه أصبح أفضل، وبات مُقبلاً على الحياة بعد وقوع الجريمة. تتيقّن إحدى تلميذاته أنه القاتل، وتواجهه، فيعترف ثم يبرّر فلسفياً. يحاول أن يحبك جريمة أخرى لقتلها. لكن، وبدلاً من أن تقع الطالبة في بهو المصعد، كما خطّط، يتعثّر صدفة ويسقط ميتاً.
تطرّق وودي آلن إلى الجريمة والقتل في أفلام سابقة؛ مثل: "جريمة وجنحة" و"حلم كساندرا". وإن استطاع المجرم النجاة في "نقطة التقاء" (2005) بسبب قوانين الاحتمال والصدفة، تعود الصدفة في "رجل غير عقلاني"، لتودي بالمجرم إلى عقابه.
أصبح عمر آلن 80 عاماً، وما زال قادراً على صناعة الأفلام وروي الحكايات كأي جدّ يملك عناصر الحكاية والروي جميعها، بما فيها الصدفة. ولا شك أن طريقته بعدم السماح لممثّليه بالاطلاع على سيناريو الفيلم كاملاً هو انتصار للصدفة أيضاً.
هكذا تنسجم لامبالاة الممثّل تجاه طريقة المخرج مع لا مبالاة الفيلسوف بقيم الحياة المتّفق عليها، ليسقط الفيلسوف ميتاً في الحكاية.. ويسقط الفيلم أمام انتقادات المشاهدين والنقّاد.
اقرأ أيضاً: "مباشرة من كومبتون": فيلم خجول عن التمرّد