"ديبان": جحيم الحرب وكوابيس العنف المدني

26 سبتمبر 2015
مشهد من فيلم المخرج الفرنسي جاك أوديار
+ الخط -

تعرض الصالات الفرنسية، حالياً، فيلم "ديبان" للمخرج الفرنسي جاك أوديار، الذي حاز مؤخّراً جائزة السعفة الذهبية في "مهرجان كان". إن كان "ديبان" لا يرقى إلى مستوى تحفة أوديار السابقة "نبي"، فلدينا هنا عمل مركّب ومتقن يذكّر بمقاربة هذا الأخير.

من جهة، يحيل الكادر الاجتماعي إلى هواجس حاضرة بشدّة في الراهن الأوروبي والفرنسي: قضية لاجئي الحروب وغيتوهات المهاجرين في الضواحي الأوروبية. ومن جهة أخرى، يستعير الفيلم من السينما الهوليوودية نموذجاً نمطياً جديداً على السينما الفرنسية: المحارب العائد من جحيم الحرب كي تصطدم كوابيسه بالعنف المدني.

إبان انتهاء الحرب الأهلية الرهيبة في سريلانكا، تجمع الأقدار ثلاثة أفراد في مخيّم للاجئين التامول، لا تربطهم أية صلة قرابة: مقاتل سابق في جيش "نمور التامول" (ديبان)، امرأة عازبة (ياليني) وطفلة يتيمة. يتّفق الثلاثة على ادّعاء أنهم عائلة واحدة، بغية خداع سلطات الهجرة ونيل حق اللجوء إلى فرنسا، وينتهي بهم الأمر إلى غيتو في ضواحي باريس يقطنه أبناء المهاجرين المغاربة والأفارقة وتسيطر عليه العصابات.

يعمل ديبان كناطور للمجمّع السكني وتعمل ياليني كطباخة وعاملة تنظيف في بيت عجوز معوّق، سرعان ما يتضح أنه والد زعيم الغيتو، "القائد" (وفق العبارة الفرنسية المؤخوذة عن العربية) إبراهيم الذي تُطلَق المفرقعات والأعيرة النارية احتفالاً بعودته من السجن. تنشأ بين ياليني وهذا الأخير علاقة خاصة. وفي الوقت نفسه، تتقرّب من ديبان وتغدو مع الوقت زوجته الفعلية.

في الخلفية الدرامية، تبدو ياليني متنازعة بين ديبان وإبراهيم اللذين يختلفان في كل شيء، الأوّل متجهّم وكتوم وفارس رومانسي لقضية خاسرة، في حين أن الثاني مرح وعفوي ويكشف لياليني عن وجه طفولي لا ينسجم مع نشاطه الإجرامي. تندلع حرب عصابات دموية في الغيتو، فتستيقظ غرائز ديبان القتالية ويتحوّل، بالتحالف مع المتضرّرين من الجيران، من ناطور إلى "شريف" أميركي يسعى إلى فرض الأمن بأسلوب الوسترن.

يتجنّب أوديار المقاربة المانوية التبسيطية التي تحرم رجال العصابات من وجههم الإنساني. يبدو "القائد" إبراهيم خائفاً وعالقاً في الغيتو مثل ياليني، وهو لا يحلم على غرارها إلا بالمغادرة. يتجنّب كذلك المقاربة القضياتية، لكن هذا لا يمنعه من التهكّم على عدم كفاءة نظام استقبال اللاجئين وآليات دمجهم في المجتمع. حين تذهب العائلة المزيّفة للتقدّم بطلب لجوء إلى وزارة الهجرة في باريس، يتّضح أن المترجم السريلانكي لدى الوزارة هو بدوره مقاتل سابق في جيش "نمور التامول"، وهو يعلّم ديبان كيف يكذب على الموظف المسؤول. ولاحقاً، بعد أن يستقر ديبان في موطنه الجديد، يطلب من ياليني أن تضع حجاباً كي تتأقلم مع مظهر نساء الغيتو.

يبقى أن خيار سريلانكا يضع المشاهد العربي المشرقي في حرج، خصوصاً أن الفيلم يخرج في خضم أزمة اللاجئين السوريين والعراقيين. هل لنا أن نسأل ماذا فعلنا بالسريلانكيات المسكينات اللواتي دفعت بهن أقدار شبيهة إلى بلادنا؟ بالطبع، الأوروبيون ليسوا ملائكة، ولا أساتذة في الإنسانية، وثمة الكثير مما يستتوجب الإدانة في سلوك مجتمعاتهم وسياسات دولهم حيال المهاجرين واللاجئين.

لكن المصيبة أن يأتي من يُسمعنا أن مجتمعاتنا أرفع أخلاقاً وأكثر إنسانية، لأن بلداناً صغيرة مثل لبنان والأردن استقبلت ملايين اللاجئين السوريين، في حين لم تستقبل أوروبا سوى عشرات الآلاف منهم. لا يا سادة، معيار أخلاقيتكم لا يقاس بتعاملكم مع أبناء جلدتكم ولغتكم ودينكم، بل بتعاملكم مع أمثال السريلانكيين والأثيوبيين. بالنسبة للأوروبيين، اللاجئون العرب هم بالضبط ما هم الأوائل بالنسبة لكم، مع فارق الخطر الإرهابي الذي لا يحضر إلا في حالة واحدة.

اقرأ أيضاً تأملات قيامية للحرب السورية: هذيان الأوساط اليهودية

المساهمون