22 نوفمبر 2024
"دومينو" العراق الكارثي
في التاسع من شهر نيسان/أبريل عام 2003، سقطت العاصمة العراقية، بغداد، في أيدي الاحتلال الأميركي. ومنذ ذلك الحين، لم يعرف العراق، ولا المنطقة العربية، استقراراً، إذ انتشرت الفوضى في الإقليم انتشار النار في الهشيم. عندما غزت إدارة الرئيس الأميركي السابق، جورج بوش الابن، العراق، ذلك العام، فإنها غزته بذريعة منعه من تطوير (واستخدام) أسلحة الدمار الشامل التي زعمت امتلاك نظام الرئيس العراقي الراحل، صدام حسين، لها. وبعد أن ثبت كذب مزاعمها، تحولت إدارة بوش تلك في تسويغ الغزو الكارثي من أسلحة الدمار الشامل إلى تحرير الشعب العراقي من قمع نظام صدام، وجعل العراق أنموذجاً أوليا للديمقراطية في "الشرق الأوسط الكبير".
النتيجة، طبعا، معروفة، فلا الديمقراطية وجدت طريقها إلى العراق، ولا إلى "الشرق الأوسط الكبير"، تحت لافتة "الفوضى الخلاقة"، كما أسمتها مستشارة الأمن القومي الأميركي حينها، كوندليزا رايس. أيضاً، فإن الولايات المتحدة لم توف بتعهداتها بإعادة بناء ذلك البلد الذي خضع لحصار وحشي قبل ذلك، امتد أكثر من عقد، منذ عام 1991. ما جناه العراق من الغزو والعدوان الأميركي-البريطاني هو الدمار والفوضى، والقتل بمعدل عشرات الآلاف بين أبنائه، وشرذمة نسيجه الاجتماعي، وتشظية مواطنته على أساس طائفي وإثني، ورهن وحدته الترابية لطموحات وأطماع إثنياته ومذاهبه، فضلاً عن تسليمه على طبق من ذهب للنفوذ الإيراني، عبر الأحزاب الشيعية الحاكمة التي جاءت على ظهر دبابة أميركية، وتمكّنت، بعد أن حل الحاكم المدني الأميركي للعراق، بول بريمير، الجيش العراقي وأجهزة الدولة. ولم تنج أميركا نفسها من تداعيات الكارثة، إذ غرقت في أوحال العراق سنين طويلة، واستنزفت قوتها وتركيزها فيه، بشكلٍ أضرّ باقتصادها بشكل رهيب وأحدث إحباطاً في معنويات جنودها وشعبها، إلى الحد الذي شاعت فيه عبارة "عقدة العراق"، على وزن "عقدة فيتنام"، في إحالةٍ إلى الغزو الأميركي العسكري المباشر لفيتنام في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته.
قبل أيام، مرّت الذكرى الثالثة عشرة لسقوط بغداد. ثلاثة عشر عاماً من الأزمات والإحباط
والفشل، ليس في العراق فحسب، بل تعدتها إلى الإقليم. ترافقت الذكرى الثالثة عشرة للغزو مع أزمةٍ سياسيةٍ، محورها حكومة رئيس الوزراء، حيدر العبادي، المتهمة بالطائفية والفساد ومحاباة الفاسدين. جاء العبادي إلى رئاسة الوزراء في أغسطس/آب 2014، خلفا لنوري المالكي الذي شكل عامل توتر طائفي وإثني في العراق، منذ أصبح رئيساً للوزراء عام 2006، بناء على صفقة أميركية-إيرانية. ومنذ وصوله إلى الحكم، سعى المالكي إلى تركيز الحكم في يديه، وأنشأ مليشياتٍ مسلحةً في وزارتي الدفاع والداخلية، لا تأتمر إلا بأمره، ارتكبت من الجرائم ما لا يُحصى. ومع الانسحاب الأميركي، أواخر عام 2011، أطلق المالكي العنان لسياساته الطائفية ضد السنة العرب، والإثنية ضد الأكراد. عبثاً حاول خصومه التخلص منه، فالدعم الإيراني له كان صلباً ومتماسكا، غير أن سقوط الموصل في أيدي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في يونيو/حزيران عام 2014، أضعف موقفه كثيراً، ما دفع الجانبين، الأميركي والإيراني، إلى التوافق مجدداً على بديل آخر له من داخل حزبه، "حزب الدعوة" الشيعي، وكان ذلك الرجل هو العبادي.
أملت إدارة الرئيس باراك أوباما أن يكون العبادي أقلّ طائفية في سياساته، وأن ينفتح على الأكراد والسنة العرب، وذلك لامتصاص الاحتقان السياسي والطائفي والاثني في البلاد، والتوحد في محاربة "داعش"، فأوباما عاد مضطرا إلى العراق، وهو الذي عدَّ الانسحاب منه أكبر إنجاز له في السياسة الخارجية، إلى حين توقيع الاتفاق النووي مع إيران، صيف العام الماضي. بل إن أوباما مدين، إلى حد كبير، في نجاحه في الانتخابات الرئاسية، أواخر عام 2008، إلى معارضته التورط الأميركي في العراق وتعهده بالانسحاب منه. ولذلك، أراد أوباما رجلاً آخر أقل استقطاباً في العراق من المالكي، على أمل تعجيل الانتصار على "داعش"، لكن العبادي أثبت أنه ضعيف، وحزبه يدين بالولاء للمالكي، لا له. أبعد من ذلك، لم ينجح في نيل ثقة السنة العرب والأكراد، ذلك أنه وجد نفسه رهينة للمليشيات الشيعية المسلحة، المدعومة والموجهة من إيران، وأثبتت فعالية أكبر في ساحات القتال من الجيش العراقي الطائفي المتهالك.
تقف حكومة العبادي، اليوم، على أعتاب السقوط، في ضوء فشله في نيل تأييد القوى السياسية الشيعية لتشكيل حكومة تكنوقراط، بعيداً عن منطق المحاصصة السياسية والطائفية التي أسست لأخطبوط فساد في العراق. ومن دون دعم أميركي-إيراني، فإنه ساقط لا محالة.
في الأشهر التي سبقت الغزو الأميركي للعراق عام 2003، حذّر وزير الخارجية، حينها، كولن باول، بوش من تداعيات قرار الغزو، قائلا له إنك إن أسقطت الحكومة في بغداد، واحتللت البلد فإنك ستصبح الحكومة، واستخدم حينها التعبير الذي اشتهر تالياً: "إذا حطمته فإنك تملكه"، في إحالة إلى أن الفيل إن دخل محل خزفٍ دمر كل شيء فيه. وهذا الذي جرى، فقد حطمت الولايات المتحدة العراق، وأخلت بتوازناته الطائفية والإثنية الحساسة، وهي، فوق ذلك، أخلت بالتوازنات الإقليمية، خصوصاً لناحية التمدد الإيراني التالي، بعد إزاحة العقبة الكؤود التي مثلها نظام صدام حسين أمام تمددها شرقا.
الفوضى التي تشهدها المنطقة ككل، لا العراق فحسب، نتاج مباشر، إلى حد كبير، للقرار الأرعن الذي نَظَّرَ له تيار "المحافظون الجدد" لغزو العراق، مدخلاً لتغيير المنطقة، فلا الديمقراطية أتت ولا الديكتاتوريات وَلَّت. بل إن الطين زاد بِلَّةً مع دخول الحركات الإرهابية على الخط، وهو ما شكل أضلاع "التحالف المدنس" الثلاثة التي تفتك بنا: التدخل الخارجي، الأنظمة القمعية، والحركات الإرهابية. ونحن نعلم اليوم يقيناً، من شهادة زلماي خليل زاده، أحد صقور إدارة بوش، وسفيرها في العراق، أن إيران، كما أنظمة عربية كثيرة، تواطأت في غزو العراق. كان غزو العراق الحجر الأول في "الدومينو" التي تتداعى أحجارها اليوم، وواهم من يظن أن تلك التداعيات انتهت، فما زالت الأحجار التي تتساقط تباعا كثيرة. الولايات المتحدة هي من حطم الخزف في فضاء العرب، ولا ينبغي أن نقبل منها أن تغسل يديها من الكوارث التي ترتبت على جرائمها في بلادنا.
النتيجة، طبعا، معروفة، فلا الديمقراطية وجدت طريقها إلى العراق، ولا إلى "الشرق الأوسط الكبير"، تحت لافتة "الفوضى الخلاقة"، كما أسمتها مستشارة الأمن القومي الأميركي حينها، كوندليزا رايس. أيضاً، فإن الولايات المتحدة لم توف بتعهداتها بإعادة بناء ذلك البلد الذي خضع لحصار وحشي قبل ذلك، امتد أكثر من عقد، منذ عام 1991. ما جناه العراق من الغزو والعدوان الأميركي-البريطاني هو الدمار والفوضى، والقتل بمعدل عشرات الآلاف بين أبنائه، وشرذمة نسيجه الاجتماعي، وتشظية مواطنته على أساس طائفي وإثني، ورهن وحدته الترابية لطموحات وأطماع إثنياته ومذاهبه، فضلاً عن تسليمه على طبق من ذهب للنفوذ الإيراني، عبر الأحزاب الشيعية الحاكمة التي جاءت على ظهر دبابة أميركية، وتمكّنت، بعد أن حل الحاكم المدني الأميركي للعراق، بول بريمير، الجيش العراقي وأجهزة الدولة. ولم تنج أميركا نفسها من تداعيات الكارثة، إذ غرقت في أوحال العراق سنين طويلة، واستنزفت قوتها وتركيزها فيه، بشكلٍ أضرّ باقتصادها بشكل رهيب وأحدث إحباطاً في معنويات جنودها وشعبها، إلى الحد الذي شاعت فيه عبارة "عقدة العراق"، على وزن "عقدة فيتنام"، في إحالةٍ إلى الغزو الأميركي العسكري المباشر لفيتنام في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته.
قبل أيام، مرّت الذكرى الثالثة عشرة لسقوط بغداد. ثلاثة عشر عاماً من الأزمات والإحباط
أملت إدارة الرئيس باراك أوباما أن يكون العبادي أقلّ طائفية في سياساته، وأن ينفتح على الأكراد والسنة العرب، وذلك لامتصاص الاحتقان السياسي والطائفي والاثني في البلاد، والتوحد في محاربة "داعش"، فأوباما عاد مضطرا إلى العراق، وهو الذي عدَّ الانسحاب منه أكبر إنجاز له في السياسة الخارجية، إلى حين توقيع الاتفاق النووي مع إيران، صيف العام الماضي. بل إن أوباما مدين، إلى حد كبير، في نجاحه في الانتخابات الرئاسية، أواخر عام 2008، إلى معارضته التورط الأميركي في العراق وتعهده بالانسحاب منه. ولذلك، أراد أوباما رجلاً آخر أقل استقطاباً في العراق من المالكي، على أمل تعجيل الانتصار على "داعش"، لكن العبادي أثبت أنه ضعيف، وحزبه يدين بالولاء للمالكي، لا له. أبعد من ذلك، لم ينجح في نيل ثقة السنة العرب والأكراد، ذلك أنه وجد نفسه رهينة للمليشيات الشيعية المسلحة، المدعومة والموجهة من إيران، وأثبتت فعالية أكبر في ساحات القتال من الجيش العراقي الطائفي المتهالك.
تقف حكومة العبادي، اليوم، على أعتاب السقوط، في ضوء فشله في نيل تأييد القوى السياسية الشيعية لتشكيل حكومة تكنوقراط، بعيداً عن منطق المحاصصة السياسية والطائفية التي أسست لأخطبوط فساد في العراق. ومن دون دعم أميركي-إيراني، فإنه ساقط لا محالة.
في الأشهر التي سبقت الغزو الأميركي للعراق عام 2003، حذّر وزير الخارجية، حينها، كولن باول، بوش من تداعيات قرار الغزو، قائلا له إنك إن أسقطت الحكومة في بغداد، واحتللت البلد فإنك ستصبح الحكومة، واستخدم حينها التعبير الذي اشتهر تالياً: "إذا حطمته فإنك تملكه"، في إحالة إلى أن الفيل إن دخل محل خزفٍ دمر كل شيء فيه. وهذا الذي جرى، فقد حطمت الولايات المتحدة العراق، وأخلت بتوازناته الطائفية والإثنية الحساسة، وهي، فوق ذلك، أخلت بالتوازنات الإقليمية، خصوصاً لناحية التمدد الإيراني التالي، بعد إزاحة العقبة الكؤود التي مثلها نظام صدام حسين أمام تمددها شرقا.
الفوضى التي تشهدها المنطقة ككل، لا العراق فحسب، نتاج مباشر، إلى حد كبير، للقرار الأرعن الذي نَظَّرَ له تيار "المحافظون الجدد" لغزو العراق، مدخلاً لتغيير المنطقة، فلا الديمقراطية أتت ولا الديكتاتوريات وَلَّت. بل إن الطين زاد بِلَّةً مع دخول الحركات الإرهابية على الخط، وهو ما شكل أضلاع "التحالف المدنس" الثلاثة التي تفتك بنا: التدخل الخارجي، الأنظمة القمعية، والحركات الإرهابية. ونحن نعلم اليوم يقيناً، من شهادة زلماي خليل زاده، أحد صقور إدارة بوش، وسفيرها في العراق، أن إيران، كما أنظمة عربية كثيرة، تواطأت في غزو العراق. كان غزو العراق الحجر الأول في "الدومينو" التي تتداعى أحجارها اليوم، وواهم من يظن أن تلك التداعيات انتهت، فما زالت الأحجار التي تتساقط تباعا كثيرة. الولايات المتحدة هي من حطم الخزف في فضاء العرب، ولا ينبغي أن نقبل منها أن تغسل يديها من الكوارث التي ترتبت على جرائمها في بلادنا.