يحاول شباب غزة التحايل على الظروف الصعبة التي يعيشونها وسط الحصار الإسرائيلي بكلّ الطرق الممكنة، ويبتدعون فرص عمل لأنفسهم تساعدهم على الصمود، "قهوة شعبان" من بين تلك المشاريع
وسط الشارع العام في مدينة رفح، جنوبي قطاع غزة، اعتاد أصحاب المحلات التجارية والسائقون تناول المشروبات الساخنة بالقرب من الموقف العام. وتلك المشروبات التي تعدّها "قهوة شعبان" وشعارها "الكيف الحلال"، يطلبها كذلك كثيرون في أنحاء مختلفة من المدينة من خلال اتصال هاتفي أو رسالة عبر تطبيق "واتساب"، فتصلهم على دراجة هوائية.
وفكرة توصيل المشروبات على الدراجات الهوائية خطرت صدفة لشعبان جمال حمودة (31 عاماً)، صاحب الكشك، بعدما اكتشف أنّ كثيرين يختارون القهوة والشاي مع نكهتيهما المميّزتَين. وهكذا صار كشك "قهوة شعبان" معروفاً لدى كلّ سكان مدينة رفح، ويعمل فيه تسعة شبّان عاطلين من العمل في الأساس، من بينهم من يحمل شهادة جامعية ومن لم يكمل دراسته بسبب الظروف الاقتصادية المتردية في القطاع المحاصر.
وشعبان كان قد تخصّص في مجال إدارة الأعمال في كلية العلوم والتكنولوجيا في غزة وعمل في عدد من المقاهي والمطاعم الكبيرة في القطاع، لكنّ دخله لم يكن يكفيه لسدّ مصاريف أسرته. وبعد العدوان الإسرائيلي على غزة في عام 2014، وجد شعبان نفسه من دون عمل فيما يتوجّب عليه سداد بدل إيجار منزله والتكفّل في مصاريف العائلة ومصاريف والدَيه. فقرّر فتح كشك للمشروبات الساخنة نظراً إلى خبرته السابقة في هذا المجال، وراح يبحث عن مكان. وجد نقطة مناسبة بالقرب من مفترق رفح، لكنّ الشارع كان مليئاً بالقمامة، فعمد إلى تنظيفه بمفرده.
يخبر شعبان "العربي الجديد"، بأنّه "عندما بدأت بالتفكير بالمشروع، أردت الإثبات لبلدية رفح بأنّني أستحقّ الحصول على إذن لفتح الكشك في الشارع، فكان تنظيفه الخطوة الأولى ثمّ الحرص على إبقائه من دون نفايات. ثمّ استدنت مبلغاً من المال لشراء بسطة ومعدّات لازمة، وانطلقت. في البداية، كنت أعمل لوحدي وأمنع أيّ شخص من رمي القمامة، وما كنت أحصّله من ربح كنت أسدّ به الديون".
راحت التعليقات الإيجابية تتوالى مع امتداح مذاق المشروبات التي يقدّمها، وبعد عام احتاج إلى مساعدة فضمّ عاملاً إليه. وبهدف تعريف الناس على كشكه، وزّع منشورات عنه وعمّا يقدّمه، وفي عام 2017 بدأ يوصل طلبات إلى أحد مصانع رفح على دراجة هوائية واحدة. واليوم، وصل عدد العاملين معه إلى تسعة مع أربع دراجات هوائية، وصارت مشروباته معروفة على مستوى المدينة ككلّ. ويشير شعبان إلى أنّه "في بعض الأوقات لا نحصل على رزق كافٍ، فيما يكون جيّداً في أوقات أخرى"، موضحاً أنّ "رزقنا يقسّم بيننا جميعاً". يضيف: "يعمل معي اليوم ثلاثة خرّيجين جامعيّين أمّا الباقون فيحملون شهادة الثانوية العامة، الظروف الاقتصادية الصعبة حالت دون التحاقهم بالجامعات"، مشدداً على أنه يشعر بالسعادة "لأنّنا نعمل معاً كفريق ولأنّنا صرنا معروفين بدرّاجاتنا الهوائية وقمصاننا الموحّدة".
محمد حسن القباني (20 عاماً)، يعمل منذ عام مع شعبان، علماً أنّ والده أُبعد من مدينة بيت لحم في عام 2000 إلى قطاع غزة بقرار من الاحتلال الإسرائيلي، لذا تعيش أسرته في مدينة رفح. ومحمد، الذي حصل على معدّل 64 في المائة قبل عامَين في الثانوية العامة، لم يتمكّن من الالتحاق بالدراسة الجامعية نتيجة الظروف الاقتصادية، وهو يعدّ المشروبات ويوصلها إلى الزبائن، وقد نجح في نسج علاقات جيّدة مع الناس بعدما كان شاباً لا يميل إلى المخالطة كثيراً. يقول لـ"العربي الجديد"، إنّ "الحياة كلها متوقفة في غزة، فلا مال لإكمال التعليم. كنت أرغب في أن أصير محامياً، لكنّ هذا أمر غير ممكن في غزة حيث لا أقارب لنا. لكنّ هذا العمل جعلني قوياً بعض الشيء".
أمّا محمود منصور (25 عاماً)، الذي تقتصر مهمته على توصيل الطلبات على الدراجة الهوائية، فهو في الأساس رياضي في مجال الباركور، وقد شارك في فرق غزية سافرت وقدّمت عروضاً في مصر والجزائر وإيطاليا. حاول تطوير العروض والتدريب، لكنّ الظروف الاقتصادية في غزة لم تسمح له بذلك، خصوصاً في غياب الدعم. وقبل عام، بدأ محمود بالعمل مع شعبان، بعدما لم يتمكّن من إكمال دراسته الجامعية في التربية الرياضية في جامعة الأقصى بمدينة خان يونس، جنوبي قطاع غزة. يقول لـ"العربي الجديد": "اعتدت التنقّل بالدراجة بين الناس الذين يبتسمون لي. فأنا لا أريد أن تتعثّر حياتي أكثر من ذلك". يضيف: "حاولت تدريب الأطفال على الباركور وكذلك فئات أخرى، لكنّ الاستثمار والتمويل غير متوفّرَين"، مؤكّداً أنّ "لا عيب في العمل وأنا سعيد به على الرغم من أنّني حزين على موهبتي".
تجدر الإشارة إلى أنّ طموح شعبان والعاملين معه لا يتوقّف عند حدّ إعداد المشروبات الساخنة وتوصيلها على الدراجات الهوائية على الرغم من تقبّل الناس لهم. وقد حصل شعبان هذا العام على رخصة من البلدية، ويطمح إلى تطوير الكشك من خلال إضافة أنواع من الفطائر والمأكولات السريعة وتوصيلها كذلك على الدراجات الهوائية. فعلى الرغم من كلّ الظروف التي تحيط بهم، يأمل شعبان والعاملون معه بالحصول على دعم لتوسيع المشروع في يوم ما.