"خطاب الردة"

15 يونيو 2016
+ الخط -
يسود اعتقادٌ اليوم في المنطقة العربية بأن حالة الفوضى، وفشل أكثر من دولة عربية، العراق وسورية واليمن وليبيا، يجعل الناس في هذه الدول تحنّ إلى زمن الدكتاتوريات التي حكمتهم بالنار والحديد عقوداً. ويُحدث هذا الاعتقاد عند كثيرين عقدة الذنب، خصوصاً الذين آمنوا بالثورات التي شهدتها أكثر من دولة عربية، ودافعوا عنها، وهو ما يجعل آخرين يتساءلون: ألم يكن من الأحسن نصح هؤلاء الناس بعدم جدوى انتفاضاتهم، أو على الأقل التريث قبل القيام بها؟
تحمل الأجوبة الجاهزة اليوم عن مثل هذا السؤال، في طياتها، تشفياً كثيراً في الحال الذي آل إليه الوضع المأساوي في هذه الدول. ومبرّرات التشفي لا تحتاج إلى من يبحث عنها، فهي ظاهرة للعيان، تتمثل في مآسٍ مازالت تتكبدها الكثير من شعوب هذه الدول المنهارة.
لكن، ماذا لو طرحنا السؤال نفسه اليوم على الشعوب التي كانت تتشكل منها يوغوسلافيا السابقة، حتى تسعينيات القرن الماضي؟ الحالة اليوغوسلافية هي الأقرب إلى ما حدث ويحدث اليوم في أكثر من دولة عربية، فبعد سقوط النظام الدكتاتوري في يوغوسلافيا، عمّت فوضى، ونشبت حروب عرقية ودينية استمرت سنوات، أدت إلى خراب البلاد وموت وتشريد عبادٍ كثيرين. وحينها، ارتفعت أصواتٌ كثيرة كانت تحن إلى زمن دكتاتورية الماريشال تيتو، بكل مآسيها وآلامها، مقارنةً مع الوضع الصعب الذي أحدثها. لكن، ماذا لو طرحنا السؤال نفسه اليوم على الشعب أو الشعوب التي كانت تتشكل منها الدكتاتورية اليوغوسلافية السابقة؟ أكيد أن الجواب سيكون مستفزاً لكل هؤلاء الذين ينظّرون ويدافعون عن الثورات المضادة في أكثر من دولة عربية، نجحت فيها هذه الثورات المضادة.
كل ما يمكن أن تفلح فيه الدكتاتوريات هو تعطيل الثورات والانتفاضات، لكنها لا تستطيع أن تقضي عليها، لأن أسبابها تظل تتفاعل في العمق، حتى يأتي اليوم الذي تنفجر فيه مثل البركان.
مناسبة هذا الكلام هو الرد على "خطاب الردة" الذي يروّجه اليوم أنصار الثورات المضادّة، وأعداء التغيير، وكثيرون من الانهزاميين والوصوليين، ممن لا يرون في الثورات سوى جوانبها السلبية، ويخوّفون الشعوب من المطالبة بحقوقهم وحرياتهم، بوضعهم أمام خيارين لا ثالث بينهما، الاستبداد أو الفوضى. وأمام حالات الفوضى العارمة التي تجتاح أكثر من دولة عربية، فحتى الضحايا يحنون إلى جلاديهم بكل قساوتهم وظلمهم.
الحياة الآمنة تجعل اليوم كثيرين يفضلون الدكتاتورية على حالات الفوضى التي تعم أكثر من دولة عربية، حتى لو كان ذلك على حساب حريتهم وحقوقهم الأساسية. والمعيار اليوم هو أن الناس أصبحوا ينظرون إلى دولةٍ استبداديةٍ مستقرةٍ على أنها أحسن من دولةٍ فاشلة، ولو سألناهم هل هناك ما هو أسوأ من الاستبداد والتسلط والتحكم، فسيكون الجواب هو حالة الفوضى التي قد ينتج عنها فشل الدولة وسقوطها.
الحالة التي يجد فيه المواطن المشرد واللاجئ والمنكوب داخل بلده نفسه تجعله مستعداً
بالتضحية بكل شيء، فقط من أجل أن ينعم بالأمان والاستقرار. وهذه حالةٌ إنسانية تعبر عن لحظة ضعفٍ بشريٍّ، يكمن فينا، لا يمكن أن يتفهمها إلا من مرّ بها أو يعيشها. إنها الحالة التي استغلتها الأنظمة الدكتاتورية والمستبدّة لحكم شعوبها بها، حالة الخوف الغريزي الذي حَكمت شعوباً كثيرة، وجعلتها تضحّى بحقوقها وحرياتها، وتطبّع مع كل أشكال الفساد والاستبداد، من أجل أن تشعر بالأمان والاستقرار.
مع الأسف، هذا هو العرض الوحيد المتوفر اليوم في المنطقة العربية، إما حالات الفوضى التي تتمدّد مثل رقعة زيتٍ في أكثر من دولة عربية، أو العودة إلى حالات الاستبداد والتطبيع مع الفساد. ولكل خيارٍ ثمنه. وفي كلا الخيارين، من يدفع الثمن دائماً هم أغلبية الشعب من المغلوب على أمرهم. فهم إما حطب للحروب وحالات الفوضى، أو سوق استهلاكية سلبية كبيرة للفساد والمفسدين.
وفي كل الدول العربية التي تصنف اليوم آمنةً ومستقرةً، نجد أن أصوات أصحاب الخيار الثاني هي التي ترتفع لتبرّر وتزيّن وتدافع عن الفساد، حفاظاً على الأمن والاستقرار بأسلوب فيه كثير من الاستفزاز والابتزاز والامتنان على ضحايا هذا الفساد.
إذا كان هناك ما هو أخطر على الأنظمة، كيفما كانت طبيعتها، مستبدةً أم ديمقراطية، إنه الفساد الذي ينخر الدولة من الداخل، ويجعلها تنهار مثل قصرٍ من رمل. هذا ما حدث مع الدكتاتوريات العربية التي حكمت بلادها بقبضةٍ من حديد، حتى استيقظ مواطنوها، ذات صباح، على سقوطها السريع والمدوّي. وهذا ما حدث ويحدث مع بعض أنظمة أميركا اللاتينية التي اختارت طريق الديمقراطية التي أرادت أن تطبّع مع الفساد، فكان مصيرها لعنات الفشل التي تلاحقها.
عندما ننظر إلى الدول العربية التي حافظت على استقرارها، نادراً ما يقال لنا إن من استفاد من حالة الاستقرار الأمني والسياسي هو الفساد الذي يستشري في شريانها، وينخرها من الداخل في صمت، مثل مرضٍ خبيثٍ، يدفع ثمنه الفقراء والضعفاء الذين يمثلون الأغلبية الصامتة المغلوب على أمرها. هناك خيارٌ ثالث لم تجرّبه بعد أية دولةٍ في المنطقة العربية، إنه طريق الديمقراطية التي تنبذ الدكتاتورية وتحارب الفساد، وهذا حلم شعوب كثيرة.
D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).