يحيط بعض الغموض بتلك الحقبة التاريخية التي أعقبت خروج العرب من إسبانيا، في نهاية القرن الخامس عشر، وبدء حركة الترجمة من العربية إلى اللغات الأوروبية، على يد مجموعة من المترجمين المموّلين من الكنيسة والتجار، قبل أن تتحوّل إلى دائرة البحث الأكاديمي المتخصّص بعد نحو 150 عاماً، والتي شابها كثير من الانحياز والمواقف المسبقة أيضاً تجاه الثقافة العربية وتراثها.
ورغم وجود ثروة كبيرة من الكتب حول تاريخ الدراسات الشرقية في الغرب، إلّا أنها لا تقدّم رؤية شاملة لدخول العربية وتأثيرها في الثقافة الأوروبية، ولا يزال الكشف عن مخطوطات جديدة يسدّ فراغات تتصل ببدء حركة الاستشراق، وتفصيلها في كلّ بلد خلال المرحلة ذاتها.
يوثّق المؤرّخ البريطاني جيرالد جيمس تومر (1934)، في كتابه "حكمة الشرق وعلومه: دراسة العربية في إنكلترا في القرن السابع عشر" (صدر في 1996 عن "منشورات أوكسفورد"، ونقل إلى العربية في 2017)، المناخات التي حكمت الاهتمام باللغة العربية في أوروبا، وكيف أثّرت عوامل سياسية واقتصادية وثقافية على خيارات الترجمة والغايات المرجوّة منها، وهو حديث لا ينفصل حينها عن نظرة عدائية للعرب، أسّست لرؤية استعمارية لا تزال رواسبها عالقة إلى اليوم.
الكتاب الذي نقله إلى العربية أحمد الشيمي ضمن سلسلة "عالم المعرفة"، والتي يُصدرها "المجلس الأعلى للثقافة والفنون والآداب" في الكويت، يستفيض في عرض معلومات تاريخية حول انطلاق التعريب في إسبانيا وإيطاليا وألمانيا وهولندا وبلجيكا وصولاً إلى إنكلترا، ويفصّل على نحو دقيق عناوين المؤلّفات التي نُشرت وأسماء مترجميها، ليخلص القارئ إلى أن استفادة الغرب من الفلسفة الإسلامية كانت في وقت مبكر في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، بينما تأخرت كثيراً الترجمة في حقول أخرى ظلّت محكومة باعتبارات أيديولوجية.
بمعنى أدق، سارع الأوروبيون إلى نقل الكتب الفلسفية التي ترجمها العرب عن الإغريقية، وأضافوا عليها شروحاتهم وتعليقاتهم وتفسيراتهم، خصوصاً في صقلية تحت حكم النورمنديين، في وقت كان الغرب قد فقَد اتصاله الكامل بالحضارة اليونانية، ليستعيدها عبر ترجمة آثارها من العربية إلى اللاتينية في جهود متفرّقة خلال القرن العاشر، قبل أن تشهد حركة نشطة بعد قرنين.
في ما عدا ذلك، تركّزت الجهود الأوروبية على درس الإسلام، في محاولة لإعادة من اعتنقه من المسيحيين إلى ديانته الأصلية، وكان القرآن أول النصوص المترجمة على يد روبرت الكيتوني، وعلى الرغم من الأخطاء الكثيرة التي اكتنفت هذه الترجمة إلّا أنها ظلّت النسخة الوحيدة المعتمدة طوال خمسة قرون لاحقة.
وظهرت الحاجة إلى الاطلاع على النسخ الشرقية للكتاب المقدّس باللغة السريانية تحديداً، وغدت دافعاً أساسياً في القرن السابع عشر للبحث عن المخطوطات الشرقية وتحقيقها ونشرها، في سياق النشاط التبشيري الذي أشرفت عليه مؤسسات دينية في إيطاليا وإسبانيا، ولم تكن أغلب الكتب المنشورة متخصّصة أو ذات قيمة، وجرت الاستعانة بالمسيحيين الشرقيين من سورية ومصر الذين استضافتهم روما في ذلك الوقت.
طغت الرغبة في ترجمة وتأليف دراسات حول الإسلام ونشأته ووصوله إلى أوروبا على جهود كثير من الباحثين، وصرفوا زمناً طويلاً في ذلك، لكن نتاجاتهم كانت قليلة ويعتورها الضعف والأخطاء المنهجية الفادحة، لعدم إلمامهم الجيد بالعربية، نظراً إلى افتقارهم حتى وقت متأخّر لمعاجم متكاملة وكتب النحو من جهة، ولعدم توافر مراجع كافية خلافاً للاعتقاد السائد أن مكتبات الأندلس كانت مصدراً مهمّاً في نقل المعارف العربية.
يلفت الكاتب إلى أن مكتبة الإسكوريال الشهيرة التي أسّسها فيليب الثاني عام 1563، لم تحتوِ على كثير من المخطوطات، ولم تكن أغلبها تحمل أهميةً، حتى اكتشاف مكتبة السلطان مولاي زيدان على يد القراصنة الإسبان عام 1611، لتصبح الإسكوريال بعد ضم المكتبة الأخيرة إليها أكبر مكتبات أوروبا وأثراها تنوّعاً.
تعثّرت دراسة اللغة العربية خارج حقلَي الفلسفة والدين، بسبب قلّة المختصّين فيها، والاعتماد لسنين طويلة على العرب الذين استقدموهم، والذين لم يمتلكوا معرفة دقيقة باللاتينية تؤهّلهم لإحداث نقلة نوعية في تعليم اللغتين معاً، ما جعل الترجمات الأولى مُغرقة في الحَرفية، قبل أن يظهر جيل من المترجمين الأوروبيين كان مُستغرباً، بحسب الكتاب، أن معظمهم من الإنكليز ابتداءً من القرن الثاني عشر.
كان وجود ترجمات إنكليزية للآثار الأندلسية سابقاً على اللغات الأوروبية الأخرى. على الرغم من أن لندن كانت آخر مدن القارة في تأسيس مكتبات وأقسام لدراسة العربية في جامعاتها، في ثلاثينيات القرن السابع عشر. لكنها وبسرعة فائقة استطاعت أن تتقدّم على غيرها، لتصبح مكتبة أوكسفورد الكبرى والأغنى أوروبياً، وهو ما يرتبط بظهور بريطانيا ومصالحها كقوة استعمارية، بعد أن شهدت الترجمة بطئاً شديداً في عهد رعاية رجال الدين وبعض الأثرياء المهتمين بتاريخ العرب.