"حالة حرب" لستفان بريزيه: صرخة ضد الرأسمالية

27 يونيو 2018
من "حالة حرب" لستفان بريزيه (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
يُمكن القول إنّ ستفان بريزيه (1966) "كِنْ لوتش السينما الفرنسية"، ليس بالمعنى الحرفي أو الفني، بل بالتَوجّه السياسي ـ الاجتماعي. فالإنكليزي (لوتش، 1936) من أهمّ المخرجين ذوي المواقف الصريحة والمُعلنة، المُنحازة إلى كلّ ما هو أخلاقي وإنساني سامٍ ونبيل، وسينماه تنضح بالمُناصرة الشديدة للطبقات المسحوقة في المجتمع الإنكليزي خاصة، والمجتمعات الأخرى عامة، والتعاطف البالغ معها. ينطبق الأمر نفسه، إلى حدّ كبير، على الفرنسي بريزيه.

بعد بضعة أفلام باكرة استهلّ بها مسيرته المهنية، وكانت ذات طابع اجتماعي ـ إنساني ملتزم، على غرار أفلام الأخوين البلجيكيين جان ـ بيار (1951) ولوك (1954) داردن، يعود ستفان بريزيه، بين فيلمٍ وآخر، إلى اهتمامات إنسانية ـ اجتماعية من نوع مُغاير لأفلام ذات صبغة سياسية واضحة. في فيلمه الصادم "قانون السوق" (2015)، يفضح المشاكل الاقتصادية للمجتمع الأوروبي، حيث يتحكّم قانون العرض والطلب، غير القاصر على البضائع والسلع فقط، بل على كلّ ما يتعلّق بالعمالة في سوق عملٍ لا يعرف الرحمة.

بعد عام واحد، يُحقِّق بريزيه "حياة"، مقتبسًا إياه عن رواية "حياة" (1883) للروائي الفرنسي غي دو موباسان (1850 ـ 1893) راصدًا فيه نوعًا آخر من الشقاء: شقاء أثنوي الطابع، له مسحة وجودية. ينتمي الفيلم إلى الدراما الرومانسية الاجتماعية، وأحداثه تجري في ريفٍ فرنسي في القرن الـ19.

يبدو أن "رسالة" ستيفان بريزيه في "قانون السوق" لم تصل، أو أنها لم تُحدِث صدى. في حين أن للتظاهرات والاحتجاجات والاعتصامات العُمّالية ـ التي تحدث بين حين وآخر في فرنسا تحديدًا ـ أثرًا عليه. لذا، كان قراره واضحًا: العودة مُجدّدًا إلى قضيته السابقة، على أن تكون "رسالة" فيلمه الجديد، "حالة حرب" (2018)، أكثر تعرية وفضحًا ومُباشرةً، وأن توَجَّه أساسًا إلى الداخل الفرنسي، قبل أي مكان آخر.

لرغبته القوية في إيصال رسالته، يتخلّى بريزيه عن العديد من مكامن القوة والتميّز الفني في أفلامه السابقة. في جديده، هناك تَعَمُّد في الخطابية والصوت المُرتفع والمُباشرة، حتى في عنوان الفيلم نفسه. هذا كلّه مُصاغٌ في سيناريو مُحكم البناء، على مستوى حواراته السجالية و"الناريّة". التوتر والحدة والجدل والشدّ والجذب سِمَاتٌ سائدة في الفيلم كلّه، باستثناء لحظات نادرة تتيح التقاط الأنفاس.

ستفان بريزيه ناجٍ من عثرات هذه النوعية من الأفلام، التي تكون ـ عادة ـ ذات نوايا حسنة، لكنها تسقط ضحية جوانب عديدة من الضعف. مردّ هذا مصداقيته في التبنّي السينمائيّ للقضايا السياسية، إذْ ليس هناك ادعاء أو ميل إلى طبقة أو فئة أو اتجاه أو حزب من دون الآخر. يظهر هذا في أكثر من جانب، أبرزها إسناد البطولة لأحد أهمّ الممثلين في السينما الفرنسية المُعاصرة، فانسان لاندون (1959)، الذي لا يقلّ عن بريزيه ولوتش وغيرهما مصداقية والتزامًا بكل ما هو أخلاقي وإنساني.

في المقابل، هناك بعض قصورٍ في الفيلم، أوضحها الأبعاد الإنسانية الأُحادية لشخصية البطل الرئيسي لوران (لاندون). لكن مصداقية الشخصية، فيما يخصّ تبنّيها قضيتها النضالية والدفاع عنها حتى آخر نفس، جلية على نحو قوي. من جهة أخرى، هي غير عميقة ولا مُؤثّرة إنسانيًا على نحو مُوجع يستدعي التعاطف الإنساني معها، بخلاف التعاطف مع قضيتها، كشخصية تييري (لاندون أيضًا) في "قانون السوق". لهذا فاز لاندون بجائزة أفضل ممثل عن دوره في "قانون السوق"، في الدورة الـ68 (13 ـ 24 مايو/ أيار 2015) لمهرجان "كانّ" السينمائي، لكنه لم يتمكّن من الفوز بها عن دوره في "حالة حرب"، المُشارك في المسابقة الرسمية للدورة الـ71 (8 ـ 19 مايو/ أيار 2018) للمهرجان نفسه.

في "قانون السوق"، يكون تييري "جريحًا" بسبب إقالته الظالمة من عمله. مُسالم ومُستكين، وظروف الحياة تطحنه. في منتصف العمر، تضطره الإقالة للبحث عن عمل لإعالة أسرته، فحياته على وشك التدمير الكُلّي. يتعرّض لمهانات كثيرة، ولإذلال واستغلال، ولخيانات الآخرين. يُحاول العيش مع هذا كلّه من دون تبرّم أو ضجر أو إطلاق صرخة غضب. لكنه، في النهاية، يتحرّك. ينتهي الفيلم نهاية مفتوحة، لكن تييري تحرَّك على الأقل، وإن يقتصر تحرّكه على ذاته، في هيئة تمرّد، أقصاه ترك الوظيفة والبحث عن أخرى.

في "حالة حرب"، يخلق ستفان بريزيه شخصية لوران، وهي نقيض لطبيعة شخصية تييري وتكوينها. فلأنه رئيس نقابة العمال في أحد المصانع الفرنسية، يكون دائم التمرّد. يرفض المساومات والمماطلة والحلول الوسطى. يأبى الاستسلام أو الخضوع. يظهر أحد الجوانب الإنسانية في شخصيته، الهادئة والحنونة والمُنخفضة الصوت والنبرة، في مشاهد عابرة مع ابنته ووليدها. هو مُطلَّق، تحاصره الديون. لذلك، لم تكن لطريقة إنهاء حياته ـ في الختام ـ ما يُبرّرها، بسبب تكوينه الشخصيّ، باستثناء تمرّده ورفضه الهزيمة والانكسار.

على امتداد "حالة حرب"، تظهر كافة الأفعال المشروعة وغير المشروعة المُمارسة من طرفين يخوضان صراعًا مريرًا. الأفعال غير المشروعة لأصحاب الشركة الألمان، بعد انتقال ملكية الشركة الفرنسية ـ التي يعمل فيها 1100 عامل ـ إليهم، وتتمثّل بتهديدهم بالتشرّد بعد قرار إغلاق المصنع. أصحاب الشركة الجُدد وعدوا العُمَّال بمكافآت وأرباح وعقود لـ5 أعوام مقبلة. فجأة، ونظرًا إلى الخسائر غير المتوقّعة، يُقرّرون الاقتطاع من الرواتب وخصم الحوافز وعدم دفع أجور 5 ساعات عمل أسبوعيًا، وأخيرًا الإغلاق التدريجي للمصنع.

لا يملك تييري ورفاقه أعضاء النقابة خيارًا آخر غير اللجوء إلى الحيل المشروعة: الاعتراض والاعتصام والتفاوض، وأيضًا وسائل الإعلام. تبدأ المُفاوضات الشاقة والدفاع المُستميت ضد أصحاب الشركة. من البداية، يبدو جليًا أن القضية خاسرة، إذْ لا سبيل للوقوف أمام "غول" الرأسمالية المتوحّشة. كلّ ما في الأمر توقّعات وأمنيات بنجاح تُسفِر عنه المفاوضات ولغة الحوار الديمقراطية الراقية، واللجوء إلى القوانين، والعزف على الوتر الإنساني، وإعمال الضمير البشري. في فيلمه هذا، يقول ستفان بريزيه إن كلّ ما يبدو "حرب استنزاف" على مدى 113 دقيقة مثالٌ يُحتذى في الدفاع عن الحقّ والاستماتة من أجله، لكن مصيره العجز أمام سلطة رأس المال بكلّ ما لها من قوّة وبطش ووحشية.

رسالة مُتشائمة، ومرثية حزينة لطبقة العمّال المسحوقة أو التي ستُسحَق مُستقبلاً بفعل الرأسمالية، في حرب اقتصادية طاحنة "تأكل الأخضر واليابس"، وهي غير خافية عن أحدٍ في المجتمعات المتقدِّمة أو المُتخلّفة في العصر الحديث هذا.

ستفان بريزيه يصرخ بصوتٍ عالٍ هذه المرة، وبشكلٍ مُباشر. فهل تصل الرسالة؟ أم أن لا سبيل لإيقاف طوفان الرأسمالية المسعورة، ومن ثَمَّ حتمية الحرب؟
المساهمون