هذه "الثورة البنفسجية" التي يقودها الشباب والتيار الليبرالي وتيار العولمة والانفتاح في أميركا لن تكون، وحسب تفسيرات خبراء بالشأن الأميركي، موجات غضب عابرة سرعان ما ستنتهي ولكنها ستبقى حركة منظمة تستهدف منع إدارة الرئيس ترامب من تنفيذ سياسته خلال الأربع سنوات المقبلة. وهي بالتأكيد ثورة مناهضة لـ "الشعبوية البيضاء" التي صوتت وسببت فوز الملياردير ترامب.
وحسب بعض علماء الاجتماع والاقتصاد، فإن تعري الطبقة الوسطى في أميركا وأوروبا خلال هذا العقد، الذي شهد أزمة المال العالمية وما تلاها من سياسات "تحفيز النمو الاقتصادي عبر السياسات النقدية" من التوسع في عرض النقود و"الفائدة الصفرية وتحت الصفرية" و"التيسير الكمي"، قد كانت لها تداعيات سالبة على المجتمعات الغربية.
لقد ساهمت هذه السياسات في إفقار ذوي الدخول المنخفضة والمتوسطة، حيث إنها خفضت القيمة الحقيقية للمدخرات ورفعت أسعار المساكن إلى مستويات فوق القدرة الإقراضية لهم وأفقرت أصحاب المعاشات من كبار السن.
وفي المقابل ساهمت هذه السياسات النقدية في زيادة ثروة البنوك وأصحاب المال، الذين سمحت لهم هذه السياسات النقدية، بالحصول على تمويل مجاني عبر الاقتراض بفائدة صفرية وقيام مجلس الاحتياطي الفدرالي "البنك المركزي الأميركي" بشراء السندات الفاسدة من البنوك وشركات "وول ستريت" بأثمان ضخمة تفوق قيمتها الحقيقية، بحجة منعها من الإفلاس.
وكانت النتيجة أن استخدم الأثرياء وشركاتهم هذه الأموال المجانية التي حصلوا عليها من" المركزي الأميركي" في المضاربة على الأسهم والسلع والذهب والإقراض في دول الاقتصادات الناشئة التي ترتفع فيها نسبة الفائدة وحصلوا على أرباح خيالية من أموال دافع الضرائب.
هذه السياسات المالية والنقدية التي نفذتها إدارة الرئيس أوباما، بحجة إنقاذ الاقتصاد الأميركي والعالمي من الإفلاس، لم تنجح إلا في إنقاذ الأثرياء من الإفلاس وزيادة ثرواتهم. وذلك ببساطة لأنها لم تستثمر مباشرة في دعم الصناعات المفلسة مثل صناعة السيارات في مدينة ديترويت بولاية ميتشغان أو مصانع الحديد والصلب في بنسلفانيا وولايات الوسط الغربي، أو حتى في تحديث البنى التحتية، التي كانت ستوفر الوظائف للعمال وأفراد الطبقة الوسطى في أميركا.
وبالتالي كانت القشة التي "قصمت ظهر البعير" في هذه الانتخابات والمركب الذي أستغله ترامب في كسب الطبقة العمالية التي فقدت وظائفها وكبار السن الذين تضاءلت قيمة معاشاتهم وادخاراتهم.
ولكن يلاحظ أن الرئيس ترامب لون هذا "الغبن الطبقي"، الذي قدح زناد ناره الانقسام الحاد في مستويات الدخل والمعيشة في أميركا بألوان عنصرية، أدخل فيها مخاوف البيض من الاندثار العرقي وسط موجة الهجرات اللاتينية والعربية إلى أميركا ومخاوف الإرهاب لتكتمل حلقة "إرعاب الأبيض" على مستقبل بقائه العرقي ومستقبل رخائه الاقتصادي.
وجسد الملياردير ترامب برنامجه العدائي والعنصري "كمخلص ونصب نفسه كمسيح" لإعادة عظمة أميركا.
وبالتالي فانقلاب " الشعبوية البيضاء"، يواجه ومنذ اليوم الأول بثورة الشباب الأميركي والتيار الانفتاحي الذي صوت لكلينتون. وربما يكون قد فات على الكثيرين أن المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون وزوجها بيل كلينتون، ظهرا في أعقاب إعلان النتيجة مباشرة، وهما يرتديان اللون البنفسجي.
واللون البنسجي يعبر عن الحب والتآلف والارتياح، وهو لا يناسب " الهزيمة المرة" أو "كأس السم" الذي تجرعته عائلة كلينتون في هذه الانتخابات، ولكنه إشارة إلى أن مبادئ العولمة والانفتاح التجاري والاقتصادي والاستثماري والحريات بكل أشكالها لن تترك للانقلاب الذي نفذه ترامب.
فأميركا الآن في مفترق الطرق في أعقاب فوز ترامب. والبرنامج الانتخابي الذي أعلنه وينوي تنفيذه الرئيس دونالد ترامب، هو برنامج إذا طبق سيقضي على أميركا، الدولة العظمي التي تقود العالم. فهو برنامج يميني متطرف لا يختلف كثيراً عن البرامج التي تطرحها الأحزاب اليمنية المتطرفة في أوروبا، حيث إنه برنامج يكرس عزلة أميركا، وربما يعجل بصعود الصين كقوة بديلة خلال العقد المقبل. من هذا المنطلق قابلت الجماهير الأميركية، ولأول مرة في التاريخ الانتخابات الأميركية بالمظاهرات والاحتجاج بدلاً من الرقص والاحتفال.
ويرى خبراء ومصرفيون أن هنالك مخاوف حقيقية من رئاسة ترامب لعدة أسباب، أهمها أنه ليس رئيساً عادياً يمثل حزباً وأيديولوجية يمكن الحكم لها أو عليها وإنما يقود "حركة شعبوية" من الجماعات العمالية التي تضررت من الإصلاحات السياسية والليبرالية وقوانين الانفتاح الاقتصادي والتجاري التي نفذتها أميركا خلال العقود الأخيرة.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الملياردير ترامب فتح جراح الطبقية والعنصرية و" الغبن المالي والاقتصادي" وتفاوت الدخول والألوان، التي كادت أن تندمل بواسطة الإصلاحات المتتالية التي نفذتها الإدارات الأميركية المتعاقبة.
وبالتالي يقول خبراء في الشأن الأميركي ومساندون للثورة البنفسجية على مواقعهم "يجب إغلاق الباب أمام نجاح دورة ترامب الرئاسية أو تنفيذ أي من برامجه"، لأن نجاحه ربما يشكل صراعاً دامياً ينتهي بتمزيق الوحدة الأميركية.