يأخذ الروائي الأرجنتيني التشيلي، آريل دورفمان (1942)، يوماً من تقويم ذاكرة قُبيل الحرب العالمية الثانية، تحديداً اليوم الذي وقّعت فيه ألمانيا والاتحاد السوفييتي معاهدة عدم اعتداء، وتقسيم أوروبا، سراً، كمناطق نفوذ (20 آب/ أغسطس 1939)، ليسيّر فيه أحداث روايته "ثقة" الصادرة أواخر العام الماضي، بترجمة صالح علماني، عن "دار بلومزبري" في قطر، مُستخدماً فيها أكبر قدر ممكن من تقنيات السرد، ليعرض أزمة الثقة، ممتدّةً من علاقات أعضاء الحزب الواحد والناس العاديين مع السلطة، إلى الأصدقاء والأزواج.
"ما كادت المرأة تدخل الغرفة 242، حتى رنَّ الهاتف". من هذا المشهد الذي ولجت فيه باربارا الفندق قادمةً من ألمانيا إلى باريس، بما بدا أنه دعوة من زوجها، يبدأ العمل وسط غموضٍ يكشفه شيئاً فشئياً حوارها على الهاتف لساعات طويلة مع شخص غريب يُدعى "ليون"؛ حيث ينجح في كسب ثقتها لتبدأ الحكايات بينهما نسلاً كل حكاية من الأخرى، وما إن يلتئم المشهد وضوحاً حتى تنقطع الحكاية.
القطع في سير الأحداث أتى على شكل ملاحظات بخطّ عريض، عبّر فيها دورفمان عن هواجسه أثناء الكتابة، تمثّلت في خوفه على مصير الشخصيات، ومن عدم قدرته على إنجاز العمل؛ إذ يقول في إحداها "أظنّ أن هناك من يتجسّس على هذه المرأة.. لا مصلحة لي بكتابة هذه القصّة".
في خلفية هذه الملاحظات، كانت الشخصيات تتطوّر، ومعها يتطوّر العمل وضوحاً، في حين أخذ شكل التدخّل في المرة الثانية طابعاً أكثر وضوحاً من الأول، وهو ليس شيئاً آخر في الحقيقة، إلّا ما يراود دورفمان أثناء الكتابة: تعليقاته على ما يروي، هواجسه، وفيمَ إذا كان قادراً على إيجاد حلّ للعقدة على طريقة "الأفلام الأميركية". لكن هذه التعليقات تأخذ طابع القصّة القصيرة، ولها مقومّاتها على أيّة حال.
استخدم الروائي تقنيات سرد كثيرة؛ بدءاً من تقنية تناسل الحكاية في ألف ليلة وليلة، حيث لا يتورّع في الزج باسم شهرزاد أثناء الحوارات، وتضمين النص تواريخَ من دون الإشارة إلى الذي وقع فيها، واستخدامه الحوارات بشكل مطوّل، وتغيير الأسماء؛ حيث يمكن تقسيم العمل إلى جزأين: الأول بأسماء الشخوص الوهمية المتخيَّلة، والثاني بأسمائها الحقيقية.
في النصف الثاني من الرواية، يترك دورفمان الأسلوب الغامض في الحكاية ليبدأ بمنعطف جديد قائم على تسارع الأحداث، حيث تقتحم الشرطة الغرفة 242 لشكّها في المكالمات الطويلة، فيتغيّر المجرى، وكأن رواية أخرى بدأت للتو.
تحقّق الشرطة معهما؛ وتنكشف شخصيات خليّة سرية للمقاومة الألمانية تعمل من فرنسا، فالأسماء في النصف الأول وجدت لها أسماء أخرى: ليون على الهاتف صار اسمه ماكس، وزوجته التي ظلّ يناديها في الرواية تحبّباً سوزانا رجعت إلى اسمها الحقيقي باربارا، وكل الذي جرى خدعةٌ قام بها "ليون - ماكس" لاستدراجها من ألمانيا للإيقاع بها.
الرواية تشريح لمفهوم الثقة بين الناس العاديين بين باربارا و"ليون - ماكس" أو بين كلاوديا والمحقّق، وصولاً إلى الثقة المعدومة بين أعضاء خلية المقاومة، وأخيراً، في نهاية المقدّمة القصيرة التي جاءت شكراً من الروائي على من كان لهم الفضل في خروج هذا العمل، ينهيه دورفمان بجملة يصف فيها أبطاله بأنهم "غير المتخيّلين كثيراً". وفي مكان آخر، يصف شخصيتين بأنهما "يمكن لهما أن يكونا تشيليين، أو بولنديين، أو جنوب أفريقيين، في مدينة لم يولدا فيها".
خلال جلسة التحقيق، تفاجأ المرأة أن "هتلر" احتل اليوم بولندا من خلال الأسئلة التي وجّهها إليها المحقّق. لكن ذاك لا يعنيها بقدر ما كان يعنيها غياب الثقة مع من ظلّت تتعامل معهم. وبيأس، توجّه كلامها للمقاوم ضد النازية ليون - ماكس: "من كثرة ما تآمرتم ضدّهم، انتهيتم إلى التشبّه بهم".