"تيزين تيشكا"

29 مارس 2016
من أعمال الفنانة القطرية أمل العاثم(عن موقعها الشخصي)
+ الخط -

تنتفض طبول كناوة وسط البيت الأزرق بحي الملاح، وتتكسر إيقاعات فاضحة لوعة مستديمة، التضرع محمول على أكتاف شاطحين، يتألمون بالعجز والضعف والفناء.
آلصلاة والسلام على رسول الله،
إلى الجاه إلى الجاه سيدنا محمد
الله مع الجاه الجاه العالي
يو .......يو...........يويويويو
الله يا ربي يا مولانا،
شكون يحن علينا الله يا ربي يا مولانا ؟
الله يا ربي الموجود،
لا أمي لا بابا، لا من يسأل علينا،
الله ربي يا سيدي،
الدنيا ما يدومو ماليها،
الدنيا زوارها عابرين،
الدنيا ضيوفها لابد راحلين،
الله يا ربي يا مولانا،
ارحم الوالدين أجمعين،
ارحمنا يوم محشورين جميع،
نقدم توبتنا ونلتمس غفرانك.
سبحان الله، سبحان الله العظيم، سبحان الله وبحمده ...
انخرطت الموجودات في الجذبة، تعالى شهيق عائشة، واحتدت ضربات أقدامها على الأرض بشدة، وبحدة جعلت كناوي يستجيب للتأثر بافتراس أرضية الطبل بقوة، ذكرت بأنين صاحب الجلد وهو يسلخ.
يو يو يويويويويوي
تضرب حصارا على نشيد الكناوية، خديجة القاطنة بأسفل البيت تتطلع لتوصل تحذيرا من مغبة "الركيز"، يلتهمها الحال دون مشورتها، ويدفعها وسط دائرة الشاطحين. تنصهر مع الشطيح، تتهادى نادبة يتمها وخوفها من أن تسقط أرضية البيت.
تواصلت الجذبة ، الزربية برسومها المزكرشة، تتحمل الكدمات تحت الأقدام وتمتص تأوهات الأرضية المتآكلة، عائشة وسط الحلقة كائن نافق، يتنفس الخواء ويعانق التيه، تهتز وترتعش بين قبضة الصدمة، الغليان يحرق الأعماق، والكناوية تتوجع على عتبة القهر، الكناوية داخلها تصارع الهوان وتصرخ أمام وجه العالم المقنع، تتحدى وجها بلا ملامح، وتستجيب المسام للجذبة وينصب الماء ليروي عطش الخيبة.
كناوة يصلون على النبي محمد:
آلصلاة والسلام على رسول الله،
إلى الجاه إلى الجاه سيدنا محمد
الله مع الجاه الجاه العالي
يو .......يو...........يو يو يو يو
عائشة تستنجد بشفاعة مأمولة، تحلقت الجارات حولها مذهولات لخصلات سواد الشعر المتطايرة، قسمات الوجه تشي بجمال مغربي متوج بسحر زاكورة، حتى وهي تتلوى أمام الجزع والخيبة، اتضحت القسمات مريحة فاتنة.
خديجة القاطنة بالمنزل السفلي، انسجمت مع الجذبة، راحت تخفف الوطء على أديم البيت السفلي.
تطرد هاجس السقوط، وتتلوى بدورها مع النوبات الكناوية المتوجعة من الإقصاء والعبودية والتمييز.
.
تركت عائشة الحلقة تجر أذيال قميصها الخليجي لتدلف إلى غرفتها.
تنكص خديجة طيف صاحبتها المتألم من أمامها، ويصدق حدسها لحب الاستطلاع الذي شغلنا، لمعرفة مناسبة إقامة احتفال كناوي صاخب يهدد سقف آيل للسقوط، تتسارع لاهثة للحديث:
عائشة صاحبتي "الروح بالروح"، هي أكملت دراستها وأنا هجرت عرش الحرف لأمتطي صهوة الزواج.
لم تكن الحاجة وراء هجرتها إلى الخليج. وحظها وافر من الجمال والعلم، تقاسمت مع أخيها الدراسة والفكر، درسا الفلسفة وكشفا أسرار الهوية والذات، وحدود الأنا وجسور الغيرية، ومتاهات الشخصية، وأغوار الذكاء، وطيش الحكمة، وعبث القيم، ووجودية سارتر، ومثالية كانت، و"تناوي" نيتشه.
واتسعت النقاشات بين الأخوين كثيرا بين دروب حي الملاح الضيقة.
وتخرج الأخوان ، يفوز الأخ بعد سنوات عجاف بمنصب عمل بمسقط رأسه بزاكورة. أصبح يشك بكانت وتجربته، وترسخ إيمانه بعبثية كامي وهو يدرس تلاميذ يأتون محلقين بحلم حياة كريمة، ويتركون مقاعد الدراسة مثقلين بكوابيس الخيبة والانتكاسة.
وتنضم عائشة إلى الرواقيين، وتعانق شارع محمد الخامس، وتربض قبالة بناية البرلمان، ويتعذر عليها الالتحاق بالعمل. وتسجل بلوائح المنتظرين الحالمين، لائحة تكبر كل يوم، تتناسل الأسماء بها، يصير التسجيل بها مكسبا، ويكبر الانتظار ويشيخ ويصبح صلاة يومية للفوز بالعمل.
وتوالت الوعود زائفة، حربائية، ترص قامات الانتظارات المتعاقبة. وانسل الحبيب، لما فاز بمورد قار في إدارة، اندس وسط معطف رقم استدلال يقيه صعيق السؤال، وانسل من ربقة أسر الشارع، لاهتا ، ارتمى على كرسي الوظيفة، خشي المجازفة باجتياز محطات الحياة، مثقل الكاهل بامرأة تستضيف كل ليلة نفر فكر، بسرير عقلها الحصيف.
وبعد أن غرقت في اليأس وتعذر إيجاد منصب عمل، أبحرت مستنجدة بخيوط عنكبوتية توصلها إلى شط عمل.
فجأة تتوقف خديجة.
تعود عائشة بعد أن اعتقلت الخصلات الطائشة، وأوقفت هدير المسام المهيجة. وأعادت رسم حدود ودوائر، وصبغت قسمات، دعت الحاضرين للالتفاف حول كؤوس شاي وفواكه جافة ومأكولات بدون ملح. هدأ الصخب، شرع البعض في الأكل. أوقفت خديجة ارتواء عطش فضولنا بسكوتها. راحت تحدق في عائشة وهي تنظم لمجلس الجارات، معلقة "الله ياربي شحال توحشت هذه الجلسة، سنين هي مڴلست معكم". وكانت أن تعبت من رفقة شارع محمد الخامس، وعانت من هجران الحبيب، وحاجة ملحة لتحمل تكاليف مرض أمها وإعالة أفراد الأسرة.
تعرف الجارات تفاصيل حياة عائشة بتدقيق، كن يمضين لقاءاتهن بالحديث عنها وتبادل الأحداث الطارئة، ويوم أخبرتهن خديجة بعزم عائشة السفر إلى الخليج لتدريس الفلسفة، ارتابت الجارات في صحة الخبر، هل ستقايض التعريف بهوبز مقابل ضمان الخبز؟ حتى متى تستطيع أن تقاوم إغراءات لا عهد لها بها.
وشهدت خديجة على جلسات سمر عبر الشات بين عائشة والفايسبوكي الخليجي. شبت المحادثات وترعرعت وسيطرت على الموقع من الطرفين وصارت عائشة تحضن حاسوبا في حجم اليد ولا تكاد تفارقه.
ويوم توديعها بالمطار اكتفى أخوها المدرس أن علق بأن الحاجة هي أم المصائب، وأن الشدة ستنجلي لا محالة، "عليك بالصبر، مصير الوالدة أصبح بيدك".

تشير عائشة لقايد أكناوة بأن يصلي على النبي الكريم، وتتحرك الأساور محدثة جلبة، تحدق خديجة بالمعصم سجين الأساور الثمينة، وتتذكر كيف أكرمتهن عائشة بالهدايا والإعانات.
كانت الأساور بيد عائشة تفضح هويتها الجديدة، رحلت إلى الخليج زوجة بشرط تدريس الفلسفة، لتهاجم عناد نيتشه وكراهيته المقيتة للمرأة، لتحاجج كامي وتحاكمه على شكوكه، لتجادل ابن عربي وتقاسمه خلوته الصوفية.
صار الفايسبوكي بعلا لها، بادلها الاقتران مالا، صيرها مالكة للعقارات والمنقولات، وصيرته مذهولا مشككا في قدراتها.
وأبهرته طاقاتها اللامحدودة.
واحتمى مستفسرا برأي العائلة التي أصدرت حكمها بكون عائشة ساحرة. ساحرة ماكرة: تمكنت منه عبر الشات، ملكت ماله وقلبه، وكانت حاسمة في كل مواقفها خلاف عامة النساء.
ذهل الزوج والأهل من قدرات عائشة، كانت "نساء في امرأة"، فهي الزوجة الولود، والمبدعة في البيت، والبارعة في التواصل، تتجمل وترقص وتطبخ وتربي وتسوق وتنظف وتصلي.
وتفلح في مواجهة فلاسفة روضوا الفكر وأقصوا النساء من حلبته.
وأصبح لقبها المغربية الساحرة.

وشبت عائشة ببيت الملاح بالرباط، تطل على البحر بوجه جنوبي باسم. تطيل تأملا عميقا يكسر الأمواج، ويعانق ليلا نجوما متناثرة تتسول منها صدقة الاطمئنان والراحة.
وامتدت بنايات اسمنت حجبت عنها الغوص في زرقة الماء بقناعة زاكورية تنتعش بالأمل، ومساءلة البحر عن عبثية المد والجزر وجدوى زمهرير يلفظ الزبد، وموقف مستسلم لا مبال لفساد يفترس الذات والأعماق.

نهشت توجيهات نيتشه قلب الأستاذ بمسقط رأسه، حار أمام قذف أخته عائشة بشط العمل بالخليج. أن يضل بمسقط الرأس يوهم التلاميذ بحظ العيش بزاكورة الخير والطيب. ويبشّرهم بالنماء وبلامركزية ستعدل في توزيع الأرزاق وتحميهم عناء طول المسافات لقضاء حاجات الحياة.
استسلم الأستاذ لبطش الفلاسفة.عاف التلاميذ مداهنة الأستاذ. بقي وحيدا بعد هجر الزوجة. انهزم الأستاذ. لفظه القسم. تأبط النسيان. صاحب الكأس. انقطعت صلة الرحم بالملاح. توفي الأب. مرضت الأم. انشغلت الساحرة بملذات وافرة. استغنت عن القسم. ركنت الفلسفة بدرج النسيان.

ترتفع عقيرة مقدم كناوة :
الله يا الله راني في حماك،
خرجني من نفق العذاب،
لا تحاسبني على ضعفي يا قوي،
اشفع لي ذنوبي،
لا تحاسبني، رددتها عائشة وهي تضرب على فخذيها بهستيرية متصاعدة، يثقل التشنج الحركات، يضيق الصدر بتذكر الأبناء بالخليج، تشتاق إلى ضمهم إلى صدرها المتصاعدة دقاته، تستحضر نهاية أمها وحيدة بين مخالب المنية بالبيت الأزرق بحي الملاح، تسترجع عودتها الطارئة إلى المغرب. يخفت هدير التوتر وهي تتذكر دعم الجارات المعنوي ومواساتهن لها، وتتنهد بقوة منددة ببؤس الحياة ومنعطفاتها المريبة ولذاتها الزائلة.

ويئس الأستاذ في تفهم التلاميذ. وعاف وضع التهميش بمسقط الرأس، وتعب كثيرا من الركض وراء امرأة تؤمن بحتمية الانعتاق. وأصبح مشلول النصف. ويئس من الوفاء بوعود أذكت حرارة الأحلام.
عزم على العودة إلى البيت الأزرق، قبالة البحر المداهن، حمل معه كتب ماركس وكيركجار ونيتش، وقارورة قانية دسها تحت معطف طويل. امتطى الحافلة الراسية بالشارع المشتعل بمسقط الرأس، حط بثقل أوهام أعضائه بمقعد بمؤخرة الحافلة المتهرئة أشلاؤها، يرتطم الرأس بالمقعد، يتفقد محتوى جيب المعطف، يسكب السائل في فوهة الفم، تحتدم الأحاسيس في جوف الفرن، تسري بين أوصال الدفء نسائم طمأنينة بالتفكير في رؤية الأخت، والعودة إلى الرباط،
والترحم على الأم، والعثور على المرأة/النصف، والعودة إلى القسم، والتوافق مع الفلاسفة، ولم شتات التلاميذ، وتأمل البحر، واجتياز الوادي وعبور شارع محمد الخامس مجردا من فوبيا المطاردة والتعنيف.
وانعطفت الحافلة التي بارت أجزاؤها بين الطرق المتآكل أديمها، وانفلتت السيطرة على الفرامل، وصرخ السائق، وتعالت الشهادة مستنجدة بالله الشاهد، وزاغت الحافلة مرتمية من عل، ورست أشلاء مفككة وأجساد منهكة بالقعر، وبزغت نظرات جاحظة نحو وجه السماء، تستفسر حكمة الله في الكون، ووجه الذنب، ويوم الحشر، وهول المحاسبة، وسعة الرحمة، وحدود المسؤولية، وعبثية النهاية.
وعثر بتيشكا على معطف طويل وأفكار فاسدة وصورة امرأة مفقودة وآمال مجهضة عصرت سائلا قانيا.
بتيشكا، أقبرت أحلام كثيرة.
وافترس الفساد أرواح بريئة، بتيشكا.
استمرت عائشة مع صويحباتها يتجاذبن أسباب مفارقة العيش، ترددن بفجع هول أن تغترب مع نفسك وتسكنك الوحشة بين أهاليك، أن تتجرع مذلة أن تصير "امرأة ساحرة"، وسط بشر يتلذذ شهوة اللحوم البضة والدموع الحارة.
تتخلص عائشة من ثقل لحظات جامدة، تقصد غرفتها، يؤنسها صخب الأساور بالمعصم، الشعر ثائر على الخنوع، مجموعة كناوة تتلذذ بالأطباق وتريح جلد الطبل.
عائشة تستعجل عودة الأخ من مسقط الرأس.
والرأس ضمن الرؤوس الضائعة بتيشكا، بلا هوية وبلا أحلام.

(كاتبة مغربية)



دلالات
المساهمون