28 مايو 2017
"تويتر" من التثوير إلى التشبيح
كل شيء وصل إلى "تويتر"، الناس والمؤسسات والوزارات والإعلام والأفكار، لكنّ أغلبهم وصل متأخراً، بقدرٍ من السنوات والأفكار، وبمقدار فصلٍ كامل من المناخ السياسي. هذا الدخول الجماعي، والاعتراف عالي المستوى بمساحة معيّنة للتعبير عن الرأي، يكون عادةً، في السعودية، مؤشراً على فقدان هذه المساحة طابعها العفوي، وتآكل صِدقيتها وقدرتها على عكس صورةٍ اجتماعيةٍ حقيقية، وانتهاءها كمساحة حرّة للتعبير. كما حدث سابقاً بصورة مُصغّرة ومتواضعة (مقارنة بتويتر) في المنتديات الإلكترونية التي أفل عصرها في لحظة تحولها إلى مساحاتٍ تُدار بصورة مُوجّهة، ويعترف بها الإعلام السعودي، وينقل عنها، ويشتبك معها.
يشير هذا الاعتراف الرسمي إلى أن هذه المساحة أصبحت خاضعةً للهيمنة والتوجيه، والتعبير عن الرأي فيها مشمول بالشروط الخانقة نفسها التي تقع تحتها الفضاءات الإعلامية التقليدية. وصل "تويتر" إلى هذه النقطة، لكنه تجاوزها. فهو القناة الأساسية التي تصنع، أو تساهم، أو تُستخدم في صناعة أغلب الأحداث الإعلامية، وهو أيضاً القناة التي تستخدمها وسائل الإعلام التقليدية لإعادة ضخّ الخبر المصنوع وتضخيمه ابتداءاً في "تويتر". ومن خصائص مرحلة الأفول هذه، أنها تقتات دعائياً على ميزات "تويتر" التي عملت بجدّ على تخريبها، تقتات الأحداث والأخبار الـمُصطنعة على صدقية "تويتر"، وتُلحق الشخصيات المزيفة نفسها بمناخ التنوّع والحرية التي كانت تُميّزه يوماً ما. وصل "تويتر" إلى هذه النقطة، لكنه تجاوزها إلى دخول مرحلة التشبيح التي تقتات على بقايا مرحلة التثوير.
لا يمكن أن تَصدُقَ في هذه الأيام المقولات العامة التي اعتادت على وصف "تويتر" بصوت المواطن والرأي العام ومرآة المجتمع وصانع الحراك الاجتماعي، ربما كان كذلك سابقاً، في لحظات محدّدةٍ خارجةٍ عن السيطرة والتوجيه. لكن، ليس اليوم. اليوم "تويتر" أداة تشبيحية بامتياز، ونموذج لنجاح السلطات الاجتماعية في تجيير الطاقة الهائلة للتقنية، لصالح مزيدٍ من التوجيه والعسف والبروباغاندا وتزييف التصورات الاجتماعية، وما يعرفه الناس عن أنفسهم. تقتات الجهود التشبيحية عملياً، لا مجازياً، على أرشيف الربيع العربي، فهناك عملٌ مكارثيّ منظّم، وإنْ كان يبدو تطوّعياً وتلقائياً، تقوم به جماعة من "الوطنيّين"، لملاحقة الأفراد ومحاسبتهم على أعمالهم بأثر رجعي على تغريداتٍ تعود إلى العام 2011، وكأنما الهدف التالي، بعد السيطرة على الحاضر، هي السيطرة على الماضي، ودفع المستخدمين إلى حالةٍ جماعيةٍ من محو الأرشيف، وإنكار الذاكرة. لكن، بينما نغرق نحن، في هذه الأيام، في قاذورات هذا النمط الجديد من الأعمال التطوعية، كالتطوّع بالتنبيش في التغريدات القديمة، والتطوع بالهشتقة، والتطوع بالتحريض، والتطوع بنشر المعلومات الشخصية للأشخاص وأماكن عملهم وأسماء أفراد عائلتهم، جدير بنا أن نتذكّر كيف أسهمت عناوين العدالة والحرية وحماية المال العام والحرب على الفساد ومُدافعة الظلم، في لحظاتٍ معينةٍ سابقة في التمهيد لإحداث مثل هذا المناخ. وكيف أسهمت بعض تقنيات الحشد والتصعيد على "تويتر" وإيجاد رأي عامٍ، من أجل هدفٍ نبيل، في ابتكار جُملة من الممارسات الساقطة أخلاقياً وتسويغها، كتمدّد النقد، ليطاول مساحاتٍ شخصيةً وعائليةً في حياة الأفراد، والإيهام بأن تحريض السلطة على بعض أصحاب الآراء المُختلف عليها، أو حتى القبيحة، عمل شريف ونزيه، وأن الاقتصاص بقطع الأرزاق عدالة، وأن الانتقام من المغرّدين التافهين بالنيابة عن كبار المجرمين، انتصار.
غايات نبيلة كثيرة لم تتحقق، لكن الوسائل الفاسدة بقيت لتُستخدم لاحقاً، ضدّ الجميع. في البداية، كانت نعمة "تويتر" هي التشظّي، إعطاء آلاف الأصوات للمحرومين من الصوت، فلا تعود مراكز القوى تعلم من أين تهبّ عليها الحرية والنقد. ثم فهمت الجبهات المقابلة هذه النعمة وادّعتها لنفسها، وصرنا لا نعرف بالتحديد من أي مصدرٍ يأتي القمع: من سلطةٍ محدّدة، أم ألوف الأقزام الأشباح؟
(كاتبة سعودية)
@Emanmag
لا يمكن أن تَصدُقَ في هذه الأيام المقولات العامة التي اعتادت على وصف "تويتر" بصوت المواطن والرأي العام ومرآة المجتمع وصانع الحراك الاجتماعي، ربما كان كذلك سابقاً، في لحظات محدّدةٍ خارجةٍ عن السيطرة والتوجيه. لكن، ليس اليوم. اليوم "تويتر" أداة تشبيحية بامتياز، ونموذج لنجاح السلطات الاجتماعية في تجيير الطاقة الهائلة للتقنية، لصالح مزيدٍ من التوجيه والعسف والبروباغاندا وتزييف التصورات الاجتماعية، وما يعرفه الناس عن أنفسهم. تقتات الجهود التشبيحية عملياً، لا مجازياً، على أرشيف الربيع العربي، فهناك عملٌ مكارثيّ منظّم، وإنْ كان يبدو تطوّعياً وتلقائياً، تقوم به جماعة من "الوطنيّين"، لملاحقة الأفراد ومحاسبتهم على أعمالهم بأثر رجعي على تغريداتٍ تعود إلى العام 2011، وكأنما الهدف التالي، بعد السيطرة على الحاضر، هي السيطرة على الماضي، ودفع المستخدمين إلى حالةٍ جماعيةٍ من محو الأرشيف، وإنكار الذاكرة. لكن، بينما نغرق نحن، في هذه الأيام، في قاذورات هذا النمط الجديد من الأعمال التطوعية، كالتطوّع بالتنبيش في التغريدات القديمة، والتطوع بالهشتقة، والتطوع بالتحريض، والتطوع بنشر المعلومات الشخصية للأشخاص وأماكن عملهم وأسماء أفراد عائلتهم، جدير بنا أن نتذكّر كيف أسهمت عناوين العدالة والحرية وحماية المال العام والحرب على الفساد ومُدافعة الظلم، في لحظاتٍ معينةٍ سابقة في التمهيد لإحداث مثل هذا المناخ. وكيف أسهمت بعض تقنيات الحشد والتصعيد على "تويتر" وإيجاد رأي عامٍ، من أجل هدفٍ نبيل، في ابتكار جُملة من الممارسات الساقطة أخلاقياً وتسويغها، كتمدّد النقد، ليطاول مساحاتٍ شخصيةً وعائليةً في حياة الأفراد، والإيهام بأن تحريض السلطة على بعض أصحاب الآراء المُختلف عليها، أو حتى القبيحة، عمل شريف ونزيه، وأن الاقتصاص بقطع الأرزاق عدالة، وأن الانتقام من المغرّدين التافهين بالنيابة عن كبار المجرمين، انتصار.
غايات نبيلة كثيرة لم تتحقق، لكن الوسائل الفاسدة بقيت لتُستخدم لاحقاً، ضدّ الجميع. في البداية، كانت نعمة "تويتر" هي التشظّي، إعطاء آلاف الأصوات للمحرومين من الصوت، فلا تعود مراكز القوى تعلم من أين تهبّ عليها الحرية والنقد. ثم فهمت الجبهات المقابلة هذه النعمة وادّعتها لنفسها، وصرنا لا نعرف بالتحديد من أي مصدرٍ يأتي القمع: من سلطةٍ محدّدة، أم ألوف الأقزام الأشباح؟
(كاتبة سعودية)
@Emanmag