"تقطيع" آنا كونيتسكي: هجاء الحداثة

07 نوفمبر 2014
من العرض
+ الخط -

يقدّم الفيلسوف الأميركي مارشال بيرمان في كتابه "كل ما هو صلب يذوب في الهواء"، الذي ترجم إلى العربية بعنوان "حداثة التّخلف"، نقداً حاداً وصادماً للحياة الحديثة. ومن مجمل انتقاداته لأشكال هذه الحداثة، يتحدث بيرمان عن العمارة المعاصرة التي أرهقت بهندسيتها إنسانها.

وفي مسرحيتها الأخيرة، "تقطيع"، تهجو المخرجة الألمانية آنا كونيتسكي العمارة، ناقدة فكرة أن على الإنسان في يومنا أن يساير إيقاع المدينة التي خلقَها، وأن يماشي حركتها التي لا تتوقف، وإلا طحنته دورة الحياة الصناعية.

كل شيء في العمل، الذي عرض الشهر الماضي في "مهرجان ميونيخ المسرحي" ويعاد عرضه في مدينة بريمين الألمانية شهر كانون الأول/ ديسمبر المقبل، خاضع للحركة. المكعبات الخمسة الضخمة على المسرح تتحرّك أفقياً وباستمرار. هناك ضوء مستطيل الشكل يتحرّك أيضاً، تماماً كما تفعل أضواء المراقبة التي ترسلها الشرطة بحثاً عن الفارّين.

فجأة، وبين هذه الكتل الضخمة، يظهر إنسان ما. إنّه الدور الذي تؤديه الراقصة سارة هابي.

لا تبدو ملامح الأنوثة واضحة على الراقصة. تظهر ببنطال عادي وسترة رياضية مع قبعة على رأسها. ليس مهماً، على أي حال، إن كانت ذكراً أم أنثى. إنها شخص وحيد، وجد نفسه بين هذه الكتل المتحركة، والضوء الاستفزازي يراقبه. شخص يدخل في علاقة هروب وتأقلم مع طاعون العمران.

تبحث الراقصة عن مخرج لها من ركام الأحجام والكتل والمدينة. وما أن تدخل المسرح حتى تتحول إلى إنسان مصاب بداء الحركة. تحاول التأقلم مع هذا الضوء ووتيرة المكعبات، فتهرب تارة، وتارة تتكور، وتارة تتسلق، وتارة تسقط، مجبرة على ذلك ضمن المساحات الضيقة، التي تزداد ضيقاً مع جنون المكعبات الكبيرة.

يوجّه "تقطيع" نقداً حاداً للمجتمعات الصناعية، ويطرح سؤالاً جوهرياً عن علاقة الفرد بمحيطه: من يتحكم بمن؟ هل يصنع الإنسان فضاءاته ومساحاته الخاصة، أم أنه مجرد عنصر بسيط ومتطفل على فضاء سابق لوجوده؟ تنتشر الأضواء على المسرح، وتكمل المكعبات مسيرها المتكرر ذهاباً وإياباً، بينما تبقى الراقصة/ الإنسان الوحيد على الخشبة، كفرد ضالّ في مجتمعه، أو زائد على المشهد.

لا تقدم كونيتسكي نهاية أو حلاً للعنة الحركة هذه. حتى أن الخاتمة تأتي بغتةً. ففي لحظة ما من العرض، وبعد أن تصعد الراقصة على المكعبات مرة أخرى، ينتهي عرض "تقطيع" فجأة. هذه النهاية المبتورة ليست إلا انفتاحاً على سؤال عمّا إذا كان هذا هو كل شيء، أم أن ما رآيناه ما هو إلّا جزء مقتطع من حياة الإنسان العصري في المدن الصناعية، وهروبه للحفاظ على ما تبقى من جسده.

العرض المسرحي "تقطيع" هو احتفاء بالجسد، وإعادة اعتبار له، بعد أن غيبته الحياة الصناعية. وبالفعل، تستحوذ الراقصة، بحركتها التي لا تهدأ، على نظرنا وأسئلتنا، رغم أنّها لم تقدم إعجازاً بحركاتها أو استعراضاً لمقدرات لا يقوم بها إلا الراقصون. لكنّ أداءها جدير بالإعجاب، لدرجة كان من الصعب معها إغفال حركاتها المستمرة طوال العرض. كل ما قامت به، كان حركة عادية وأفعالاً جسمانية طبيعية، لكنها بدت وكأنها متقلصة في ظل تشنج المدن.

يتردد سؤال غريب نوعاً ما طوال المسرحية: هل ستخلد سارة هابي إلى الراحة ولو لفترة قصيرة، أم أنها ستستمر بالتحرك والتسلق والركض والهروب والسقوط في العرض الذي تتجاوز مدته الساعة؟ قد يقود هذا السؤال إلى تضليلنا عمّا هو أكثر أهمية، وهو متى ستتوقف تلك الكتل والمكعبات عن الدوران وعن إجبار الفتاة على الحركة، بدلاً من أن نسأل متى سترتاح الفتاة؟ ما هي نهاية هذا السعي والجهد؟ هل هي راحة؟ تأقلم وذوبان مع الأثير؟ أم بتر كما الموت؟

دلالات
المساهمون