يظن من يقرأ كتاب "تعليم المقهورين" أن كاتبه باولو فريري، وهو من عاش في أواسط القرن الماضي في أميركا اللاتينية يجلس بيننا يُنظِر ثوراتنا العربية، ويجيب على أسئلة لا تبارح أذهاننا من قبيل "لماذا تعثرنا؟" ما الذي فاتنا ولم نقم به على وجهه الصحيح؟ هل كان هناك طريق آخر يوصل بنا إلى محطة التحرر الذي فوتناه؟
ولد باولو فريري في عام 1921 في البرازيل، خبر العوز والحاجة وعرف الجوع والتسول واضطر في أحيان كثيرة إلى الانقطاع عن التعليم والدخول إلى سوق العمل، فكان لذلك عظيم الأثر على نفسه، مما جعله يستنتج نظرياته اللاحقة وهو أن نظام التعليم يشكل أحد الأدوات الأساسية التي تستخدم للإبقاء على الطبقات الدنيا "في الأسر" ولنشر ثقافة الخوف والخنوع والصمت".
نقد فكرة "التعليم المحايد"
يقول فريري: "لا يوجد شيء اسمه عملية تعليم محايدة، فالتعليم إما أن يتحول إلى أداة تصهر الأجيال الصغيرة في النظام الحالي وتؤدي إلى الانصياع له، أو يصبح أداة لـ "ممارسة الحرية"، إنها الوسيلة التي من خلالها يتمكن الرجال والنساء من التعامل بشكل انتقادي وخلاق مع الواقع، ويكتشفون كيف يمكنهم المساهمة في تحرير مجتمعهم".
ويحذر فريري من وقوع بعض القادة الثوريين في فخ استخدام ذات الأساليب التعليمية التي يستخدمها السلطويون، وإنتاج واستهلاك ذات الأفكار التي خبروها مع حكامهم أو من كان متسلطاً عليهم، فيصبحوا هم أيضا - وهم الثوريون - ينكرون العمل التربوي في عملية التحرير، ويستخدمون بدلا من ذلك الدعاية للإقناع والقهر والتسلط، "ولا يمكن للدعاية والإدارة والتلاعب والغش أن تكون أدوات إعادة إنسانيتهم لهم فهي كلها أدوات سيطرة وليست أدوات تحرر. يؤكد باولو فريري أن الأداة الوحيدة الفعالة في عملية التحرر هي التربية، فهي تعمل على "الأنسنة" وبالتالي على إقامة علاقات حوارية مثمرة بين القيادة الثورية ومع المضطهَدين. ويكف الأسلوب في هذه التربية عن كونه أداة يستطيع المعلمون عن طريقها التلاعب بالطلاب وغشهم، وذلك لأنها تعبر عن وعي الطلاب أنفسهم. فالتعليم عند فريري إما للتطويع والقهر والعبودية أو للتحرير والإبداع والوعي.
أما التعليم السلطوي فهو الذي يؤدي إلى تطويع الطلاب وجعلهم جزءا لا يتجزأ من عملية القهر والعبودية، وعكس التعليم السلطوي يأتي التعليم التحرري أو التعليم الحواري الواعي الذي يؤدي بطلابه إلى نقد المجتمع، والوصول به إلى التحرر والقضاء على السلطويين المضطهِدين، بإدماجهم هم أنفسهم في عملية "أنسنة" المجتمع ككل.
"التعليم البنكي" وسيلة السلطة التقليدية
أما التعليم البنكي "السلطوي" فهو يمثل عملية "إيداع" يكون الطالب فيها الجهة التي يتم الإيداع فيها، والمعلم هو المودِع، وبدلا من أن يقوم المعلم بالتواصل مع الطلاب يلجأ إلى إصدار البيانات وإيداع ما لديه فيتلقاها الطلاب ويحفظونها غيبا ويرددونها بصبر.
في المفهوم البنكي للتعليم، تعتبر المعرفة هبة يمنحها أولئك الذين يعتبرون أنفسهم ضليعين في المعرفة إلى من يعتبرونهم لا يعرفون شيئا. حيث يتم إلصاق الجهل المطبق بالآخرين، وهي صفة من صفات "أيديولوجية الاضطهاد". ويقدم المعلم نفسه إلى طلابه باعتباره نقيضهم بالضرورة، كما يعتبر جهلهم مطلقا يبرر وجوده.
المفهوم البنكي للتعليم لا يتعدى فيه مجال النشاط المسموح به للطلاب حدود التلقي والامتلاء وتخزين ما يتم إيداعه، حتى تتوفر لهم الفرصة لأن يصبحوا جامعيين ومصنفين للأشياء التي يتم تخزينها. وهذا كله يتم من خلال الافتقار إلى الخلق والإبداع وغياب التحول والمعرفة في هذا النظام.
يؤكد فريري أن المفهوم البنكي للتعليم يؤدي إلى أن يكون الناس كائنات قابلة للتكيف، فكلما ازداد انهماك الطلاب في تخزين ما يتم إيداعه لديهم، قلّت إمكانية تطويرهم لوعي انتقادي يؤدي إلى تدخلهم في العالم كمتفاعلين نشطاء مع العالم. وكلما ازداد قبولهم بالدور السلبي المفروض عليهم، كلما جنحوا ببساطة إلى التكيف مع العالم في وضعه.
على النقيض من السلطويين، يجب على الملتزمين حقا بالتحرر أن يرفضوا المفهوم البنكي كلية، وتبني بدلا منه مفهوم يرى الناس كائنات واعية، وكذلك يجب عليهم التخلي عن الهدف التعليمي الخاص بالإيداع والاستعاضة عنه بطرح مشاكل الناس في علاقاتهم بالعالم. تعليم يجسد التواصل ويرفض البيانات. حيث يتألف التعليم التحرري من عملية "اطلاع ومعرفة"، وليس من عملية نقل وتحويل للمعلومات.
المعلم الطالب والطلاب المعلمون
من هنا كان على أي قيادة ثورية أن تمارس ما يعرف بالتعليم ذي الأهداف المشتركة Co-intentional Education ، وفيه يركز المعلم والطالب (القيادة والشعب) بشكل مشترك على الواقع، فكلاهما "فاعل"، ليس فقط في مهمة اكتشاف ذلك الواقع، ومن ثم التوصل إلى فهمه بشكل انتقادي، ولكن في مهمة إعادة خلق المعرفة، وعندما يحصلون على هذه المعرفة للواقع عبر التفكير والعمل المشتركين، يكتشفون أنفسهم بأنهم من يعيد خلقه باستمرار.
ويوضح فريري أن مبرر وجود "التعليم حر الإرادة" يكمن في توجهه نحو المصالحة. فالتعليم يجب أن يبدأ بحل التناقض بين المعلم والطالب، بالتصالح بين قطبي التناقض، بحيث يصبح في الوقت ذاته معلما وطالبا. ولا يتوفر هذا الحل في المفهوم البنكي، بل على العكس يبقى على التناقضات ويحفزها من خلال المواقف والممارسات التي تعكس المجتمع القمعي. وأثناء ذلك، يصك فريري مصطلحا جديدا كلية هو مصطلح "المعلم الطالب والطلاب المعلمون"، فلا يعود المعلم مجرد الشخص الذي يعلم، بل يصبح الشخص الذي يتعلم أيضا في حواره مع الطلاب، الذين يقومون بدورهم في التعليم في الوقت الذي يتعلمون فيه. فيصبحون مسؤولين عن عملية ينمون ويكبرون فيها، وفي هذه العملية لا يعود للحجج القائمة على السلطة أية قيمة. فكي تكون السلطة قابلة للتطبيق عليها أن تكون في صف الحرية لا ضدها. وهنا لا يُعلّم أحد أحدا. كما أن المرء لا يعلم نفسه بل إن الناس تعلم بعضها بعضا، ويتوسط العالم بينها.
ويوضح فريري بشكل عملي الفرق بين التعليم البنكي والآخر الحواري، فيقول إن التعليم البنكي يميز بين مرحلتين في عمل المربي، المرحلة الأولى يقوم المربي بمعرفة شيء خاضع للمعرفة خلال إعداده للدرس في حجرته أو في المختبر، وفي المرحلة الثانية، يفسر لطلابه عن ذلك الشيء، ولا يطلب إلى الطلاب أن يعرفوا بل أن يحفظوا غيبا المحتويات التي تم سردها. وكذلك لا يمارس الطلاب أية عملية معرفة، وهكذا يتوفر لنا نظام تعليمي لا يحقق أي معرفة حقيقية أو ثقافة حقيقية.
أما في التعليم الحر، فلا يتم تجزئة نشاط المعلم والطالب، فهو ليس العارف في مرحلة ما والراوي في مرحلة أخرى. فالمعلم يقدم المواد للطلاب للنظر فيها، ويعيد النظر في اعتباراته السابقة لدى تعبير الطلاب عن وجهات نظرهم. ويصبح الطلاب (الذين لم يعودوا مستمعين خانعين الآن) باحثين مشاركين انتقاديين في حوار مع المعلم. إن دور المربي الذي يطرح مشاكل وقضايا بالاشتراك مع الطلاب يخلق حالة من المعرفة الحقيقية.
عملية التحررهي عملية لا بد أن تنبع من المقهورين أنفسهم الذين تقع عليهم مهمة النضال من أجل تحررهم. أما المعلمون هم من لديهم القدرة على مساعدة الطلاب كي يصلوا إلى هذا الهدف بتحويلهم لفاعلين في العملية التعليمية وبهذه الطريقة يتم تغلب على السلطوية والنزعة الفكرية التغريبية. ويمكن الناس أيضا التغلب على الإدراك الخاطئ للواقع، وبالتالي يصبح العالم الذي لم يعد شيئا يوصف بكلمات خادعة، يؤكد فريري في النهاية على أن التعليم التحرري لا يمكن أن يخدم مصالح المضهِدين "السلطويين"، فليس بوسع أي نظام قمعي أن يسمح للمضطهَدين "الشعوب" بأن يبدأوا بالسؤال: لماذا؟
كتاب "تعليم المقهورين" يوضح بصورة جلية العلاقة الوطيدة بين "الديكتاتورية" وبين الأساليب التعليمية البالية المنتشرة في مجتمعاتنا، أساليب تربي على القهر والخنوع وتقبل الرؤية الموحدة المفروضة من خلال وأد مهارات التفكير النقدي للواقع والمجتمع. العلاقة تم نسجها بصورة "جهنمية" عبر قرون وعقود من الذل والهوان حتى أصبح المعلم المبدع الذي يعمل على تمكين الطلاب من خلال تنمية إدراكهم لقدراتهم المعرفية والمهارية عملة نادرة، ولو وجد لتكالبت عليه الأيدي لتكميم فمه وإغلاق عقله... وما الأسلوب العقيم للاختبارات المركزية الموحدة التي تتعامل مع الطلاب كأنهم ماكينات لتعليب المعرفة والمعلومات في مصنع اسمه المدرسة إلا وسيلة لعملية تكبيل قهرية مستمرة.