الاسم، وحده، خزّانٌ لذكريات ومآسٍ ومواجع. عنوانٌ لأبشع تسلّط وأقسى عنف. اختزالٌ لتاريخٍ دمويّ يعتمده نظامٌ قامعٌ في بطشه وهوسه بإهانة الضحية، ودأبه على تجريدها من إنسانيتها، والتفنّن في تعذيبها، كي يبلغ ـ هو ـ نشوة القتل، عبر إقصائها عن الحياة، وإنْ بشكلٍ تدريجيّ؛ مع أنه يفشل أحياناً في بلوغ مقصده.
الاسم، وحده، كافٍ لألف حكاية وحكاية. الذاكرة مليئة بأنماط قهر وتنكيل، يبدآن بالجسد، ولا يتردّدان لحظة عن افتعال الجُرم بالروح والنفس معاً، إذْ إن الاستبداد يبدأ، كما يكتب الروائيّ اللبناني الياس خوري، بالجسد، "كي يُجوِّف الروح" (مقالة "سيدة المنيا سيدتنا سعاد"، المنشورة في "القدس العربي"، في 31 مايو/ أيار 2016).
المواجهة صعبة، تبدأ من الإقرار بالأمر الواقع، كي يتمكّن المرء من التصدّي للخراب المحيط به، بوعي من يرغب في عدم الرضوخ للإذلال والهوان والقهر والتنكيل، لعلّ الرغبة تلك تُساهم، بطريقة أو بأخرى، في تحصينه من عدم الرضوخ للموت.
تدمر: من تاريخ قديم وآثار قيّمة وحضورٍ في الذاكرة الجماعية، إلى رمز عسكريّ للانتداب الفرنسي في سورية ولبنان. ثم، بعد حين، يتحوّل إلى "حالةٍ"، تعجز اللغة العربية عن ابتكار وصفٍ ملائمٍ لها، لشدّة بطشها وقسوتها.
وتدمر ـ إذْ يُعرَف الاسم بكونه أحد أسوأ أنظمة السجون التابعة للنظام الأسديّ في سورية، منذ عهد الرئيس حافظ الأسد ـ يُصبح، مع الثنائي مونيكا بورغمان ولقمان سليم، محطة تأمّل في معاني المواجهة والتضحية والمثابرة على العيش، ولحظة استكشاف عمليّ لوحشية النظام، يُعاد بناؤها عبر ضحايا لبنانيين ناجين من أهوالها، لا يكتفون ببناء المكان مادياً، لأنهم يذهبون في الاستعادة إلى "تأدية" أدوارهم كضحايا، وإلى "لعب" دور الجلّاد أيضاً.
ذلك أن "النقطة المركزية" لفيلمهما الثاني هذا، بعد "مَقَاتِل" (2004) ـ الذي يوثّق شهادات مقاتلين مسيحيين سابقين، يروون فصولاً من مشاركتهم في الحرب، كما في مجزرة المخيمين الفلسطينيين في بيروت، صبرا وشاتيلا، في سبتمبر/ أيلول 1982 ـ كامنةٌ "في المواجهة الحاسمة للعنف الأقصى، ضمن سياق سياسي" (حوار معهما منشور في الملف الصحافي للفيلم).
لن يكون التبادل بين الضحية والجلّاد، بالنسبة إلى الضحايا تحديداً، عاديّاً. إذْ كيف يُعقل لضحية أن تؤدّي دور جلاد، يتفنّن بتعذيبها أعواماً مديدة؟ اللعبة جزءٌ من اغتسال روحي، ومن تطهّر عبر مواجهة الذات في مرآة الجلاد، المتمثّل بالضحية نفسها.
لعبة خطرة ودقيقة وحسّاسة. لكنها لن تبقى مجرّد لعبة، لأنها تغوص في جوانية المرء، وتدفعه إلى سرد الحكاية، بشيءٍ من قوّة التحرّر من بؤس الذاكرة، ومتاهاتها القاتلة. فالضحايا، إذْ يروون بعض حكاياتهم في تدمر، يظهرون، أمام الكاميرا، كمن يكتفون برواية وقائع. لكنهم، عندما يمارسون عنف الجلّاد مع "زملاء" لهم لا يزالون ضحايا، يبدون كمن يؤكّدون وقائع يروونها: "البطش جبّار، والانتقال إلى خانة الجلاد، لن تعفينا من إنسانيتنا".
والكاميرا، إذْ تتلصّص على الذات والمكان والنفوس والعلاقات، تأخذ الجميع، الضحايا والمشاهدين معاً، إلى عالمٍ من الهزائم والخيبات، وإلى مسارات لن تخلو من أمل خلاصٍ، أو من فعل مواجهة.
وهذا، إذْ يظهر جليّاً في اللعبة السينمائية بين التوثيق والمتخيّل السرديّ، يتأتى من تساؤل مطروح لدى المخرجين، يقودهما معاً إلى تحقيق "تدمر" (2016، 103 د.، بمشاركة تمويلية إنتاجية من "مؤسّسة الدوحة للأفلام" و"سند" و"إنجاز" و"الصندوق العربي للثقافة والفنون (آفاق)" و"أمم للتوثيق والأبحاث"): "من أين تأتي قوّة الضحايا، التي تعينهم على البقاء أحياءً خلال أعوام من التعذيب والإهانة؟".
الفيلم وثائقي يتضمّن مشاهد عديدة ترتكز على "التمثيل"، المتحوّل من استعادة ذاكرة إلى ممارسة الفعل بحدّ ذاته، يُراد له أن يكون شهادة حيّة عن تاريخ معروف. وتدمر السجن، إذْ يمتلك خصوصية الذروة في إهانة كلّ كائن بشريّ يُزجُّ به، يُصبح "مملكة الموت والجنون"، كما يصفه الشاعر السوري فرج بيرقدار، ويؤكّد حضور الثنائية هذه فيه (الموت والجنون)، عبر أناس يعرفون تفاصيله، ويعيشون تغييبهم عن الحياة داخله، ويقولون بعض حقائقه.
القول منبثقٌ من لحظة سينمائية، هي مرآة واقع وحقيقة: معتقلون لبنانيون سابقون فيه يؤدّون، أمام الكاميرا، أكثر من دور أساسيّ. يبدون، في أكثر من لحظة أو موقف أو حالة، "كأنهم" يغتسلون من ماضيهم، ليس فقط عبر استعادتهم إياه بالسرد الحكائيّ، بل عبر "تمثيل" أفعال لهم يمارسونها سابقاً، وعبر إعادة ما يُجبَرون، ماضياً، على فعله.
وأيضاً، عبر انتقالهم من كونهم سجناء، إلى وضعية الجلاد. بهذا، يتعرّون أمام أنفسهم بالكاميرا، فتكون الكاميرا معبراً لهم إلى اتّجاهات عديدة: تأكيد المصالحة مع الذات، أو مزيد من فضح بعض المخبّأ، أو تأريخ لحظات الخراب، أو توثيق فعل المواجهة، أو أرشفة الحكاية، أو قول وقائع وتوثيقها بصرياً.